
أرواحنا في أيدي المحتالين
نورة السويدي
بقدر ما يسعدنا خبر ضبط عاملين في حقل حيوي خدماتي مهم في المجتمع كقطاع الصحة، يمارسون وظائفهم بشهادات مزورة، وإحالتهم إلى الجهات القانونية التي تبت في وضعهم، لتنقية الأجواء المجتمعية الخدماتية من كل ما يؤثر على الجودة فيها.. نقول بقدر ما يسعدنا ذلك، نشعر معه بالمرارة والوجل من احتمالية وجود كمٍّ غير مكتشف في غيرها من القطاعات، أو في القطاع ذاته في جهات لا تحتكم إلى معايير الدقة والتدقيق في احترافية العاملين فيها أو شهاداتهم وخبراتهم.
فأن يضبط 56 طبيباً وممرضاً يعملون في مستشفياتنا أو عياداتنا، لا يحملون شهادات علمية أو وثائق خبرة تؤهلهم لممارسة المهنة في إمارة دبي فقط، فهذا يفتح باباً من الصدمة في كمّ المرضى الذين مرّوا على هؤلاء الأطباء المزورين أو الممرضين المزيفين، وكلهم ـ أي المرضى ـ ثقة في أنهم يسلمون أنفسهم وأرواحهم وصحتهم لأطباء أقرت وجودهم وزارة الصحة أو الهيئات المختصة، بعد امتحانات وتقييمات وبحث وتدقيق قبل أن يسمح لهم بمزاولة العمل، لا أن يتركوا يعيثون ضرراً في المشافي والعيادات، ثم يتم التدقيق في حقيقتهم بعد سنوات، ويكون قد سقط تحت أيديهم الكثير من الضحايا!
وما يدفع على الخوف حين التفكير في هذا الأمر، هو أن المتسربين المنتحلين لشخصيات أصحاب هذه المهنة الجليلة، هم في دبي المعروفة بصرامة معاييرها التي تصل إلى العالمية، والمتميزة بجودة خدماتها ومؤهلات العاملين فيها، فكيف يكون الحال في المناطق الأخرى الأقل تشددا في معايير القبول والعمل في مثل هذه المهن؟! أو بعض القطاعات الخاصة التي قد يكون من مصلحتها الحصول على طبيب أو ممرض براتب مخفض، حتى ولو قدم للوزارة أو الجهات الفاحصة له شهادات هم يعلمون سلفاً أنها مفبركة ومزورة!
أين الخلل في مثل هذه الحالات التي كنا نتمنى ألا نسمع عنها أبداً؟ ومن المسؤول عن قبول أمثال هؤلاء للعبث بأرواح الناس وأجسادهم؟ ومن المطالب بإزاحة التشويه عن سمعة الأطباء والكادر الطبي والخدمات الطبية في الإمارة أو الدولة ككل، إذا علمنا أن قناعة الكثيرين عربياً وإقليمياً أنه إذا ذهب للعلاج في مشافي دبي أو الإمارات عموماً فكأنما ذهب إلى أوروبا أو أميركا، من حيث تخصص وخبرات الأطباء وجودة الخدمات وارتفاع المعايير المهنية؟!
ليس الأمر عند هذا الحد فقط، فكيف يكون الحال لو انسحب الأمر على قطاع التعليم والخبرات الأجنبية، من دكاترة ومعلمين وأساتذة وخبراء وفنيين وإداريين وتنفيذيين على اختلاف تصنيفاتهم، وغيرهم الكثير ممن يتسلمون أدق المهن في البلاد، ولا ندري هل هم صادقون في شهاداتهم ومؤهلاتهم أم أنهم يعملون في الظلام وينتظرون أن يتم القبض عليهم متلبسين بمهنة لا يعرفون فيها غير اسمها! ولا يتقنون منها إلا رسمها! لتزداد المأساة على الناس المنتفعين بخدمات هؤلاء، وهم يظنون أنهم بين أيدٍ أمينة محترفة مختبرة، لم يكن ليتاح لها المجال للعمل لولا أن اطمأن القائمون على توظيفهم إلى قدرتهم على الوفاء بالتزامات الوظيفة.
قطعاً الأمر ليس بهذا الحجم من الفساد، وإلا لتهاوى البناء المؤسساتي بين ليلة وضحاها، ولا نشك أبداً في أن الرقابة تعمل على قدم وساق ليبقى هامش الأمان العملي الاحترافي مصوناً في خدمة المجتمع، وما كان الإعلان في صحفنا المحلية عن كشف الأطباء والممرضين المزورين، إلا دليلا على مدى الشفافية التي يتعامل بها المسؤولون في قضايا الصالح الاجتماعي، والمسؤولية الأخلاقية قبل القانونية، التي يرون أنفسهم أمامها لتقديم ما ينفع الناس.
إلا أننا نسأل كأبناء مجتمع يحملون الهم العام كما يحمله المسؤولون عنه، ما السبب وراء ذلك التساهل؟ لماذا لا تزال تسيطر على البعض منا عقدة الوافد والأجنبي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وننسى أن بعضهم قد يكون نصاباً أو جاهلاً أو محتالاً أو فاشلاً في بلده مدعياً للنجاح في بلدنا؟
ولماذا يتاجر البعض بمصلحة الوطن لينال بعض المكاسب الخاصة، وهو يعلم أن الفساد إذا استشرى سيخسر الجميع ولن يكون هناك أي رابح؟ إن ما بناه المخلصون في عمر الدولة من سمعة ومكتسبات ومنجزات، هو إرث للجميع لا ينبغي التهاون فيه أو التنازل عنه، ولن يسمح لأحد بأن ينال من شأن الحق العام مهما علا كعبه في المجتمع، ولا بد من الأخذ على يد المخطئين والضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه تمرير الخطأ والرضى عنه.
نكرر ثناءنا على جرأة الهيئة المسؤولة، وإشعارها للجمهور بالخلل الحادث في كوادرها العاملة وإيقاع العقوبة التي يستحقونها، مع أننا لا نظن أن وضعهم على القائمة السوداء يشفي غليل الكثير من المرضى، الذين تدهورت بلا شك حالاتهم الصحية على يد هؤلاء المحتالين، ونتمنى مع ذلك أن يبادر غيرها من المؤسسات والهيئات، إلى تنقية كوادرها من شوائب المتطفلين على العمل فيها، حفظا لمصلحة الوطن ووفاءً لحقوق المواطنة.