عبدالله السويجي

لم يعش العرب على مر تاريخهم منذ الجاهلية حتى اليوم، ممارسة حقيقية للديمقراطية بما تعنيه من تناوب السلطة والشفافية والمسؤولية والاختيار الحقيقي لممثليهم أو حكامهم . ومراجعة بسيطة لوسائل اعتلاء سدة الحكم والوصول إلى العرش، نجد أنه كان يتم بالقتل والاغتيال أو الانقلاب، والفترات التي شهدت (استقراراً) كانت تحت حكم استبدادي دموي عسكري أمني شمولي، وغيابه كان لا بد أن يترك البلاد في فوضى وفساد، وهذا لا يعني أن الحكم الاستبدادي الفردي هو الأفضل للشعوب العربية، ولكن التاريخ يقول هذا، ولا توجد حالات ناصعة إلا في ما ندر عن تنازل عن الحكم أو انتقال سلس للسلطة، أو اختيار حاكم في ظل أمن اجتماعي ومجتمعي واقتصادي وعسكري، أو في ظل مصالحة حضارية تتقبل الآخر وترضخ الأقلية لحكم الأغلبية، وما الديمقراطيات التي يتغنى بها البعض، سوى هدنة بين المذاهب والطوائف والأديان والأعراق، ما لبثت أن فجرتها الحروب الأهلية .

وبغض النظر عن الشكل الديمقراطي الذي تطمح إليه الشعوب العربية، إن كانت ديمقراطية ليبرالية أو نيابية أو شعبية، وبغض النظر عن مستوى الوعي الشعبي بهذه الأشكال والإحاطة بها، وبغض النظر أيضاً عن هشاشة أو ثراء تاريخ الديمقراطيات في العالم العربي، فإننا أمام حقيقة واحدة تقول إن الشعوب العربية بواقعها الحالي، من عدم وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، وتمسّك بالقبيلة والبحث عن الزعامة بشراهة، والتزمت المذهبي والطائفي والعقائدي، وانتشار الفساد والمحسوبية، والارتباطات الخارجية، هذه الشعوب ليست مهيأة لخوض غمار الديمقراطية بأي شكل من أشكالها، وحين أتيحت لها فرصة تاريخية، بغض النظر عن كيفية تحقّق هذه الفرصة، لممارسة الديمقراطية، استعادت جاهليتها وطائفيتها ومذهبيتها ورِدتها وتزمّتها، ما يؤهل كل طرف من الأطراف للحصول على لقب (مستبد وديكتاتوري) بجدارة .

ولعل ما حدث ويحدث في جمهورية مصر العربية، من عدم قبول طرف معيّن لحكم قضائي أو صعود شخص ما، أو اختيار رمز ما، ورفضه رفضاً قاطعاً، واللجوء إلى الشارع وممارسة الحرق والتدمير والتخريب، تحت شعارات مطاطة، إن كل هذا يعني شيئاً واحداً هو عدم القبول بالطرف الآخر حتى لو فاز في انتخابات تشرف عليها لجان مراقبة دولية . والسؤال الذي تطرحه الوقائع هو: لماذا يذهب البعض إلى صناديق الاقتراع إذا كان سيرفض النتيجة إن لم تكن لمصلحة مرشحه، وسيقبلها إذا كانت لصالحه؟ إن هذا يعني أن يبقى الحال على ما هو عليه حتى إشعار آخر، أي تبقى الميادين ملأى بالمعترضين حتى تحقيق مطالب فلان أوعلان، والأنكى من ذلك، أن بعض المرشحين القابلين بصندوق الاقتراع حَكَماً بين المتنافسين، سيرفض النتيجة إذا لم تكن لصالحه، أو إذا صبّت في صالح منافسه، فلماذا كل هذه العملية (الديمقراطية)؟ ولماذا توهمون أنفسكم بممارسة الديمقراطية؟ هذا الكلام موجه إلى الأطراف جميعها .

النموذج الآخر الذي لايزال يعاني من الاقتتال القبلي أو المصالحي أو العصاباتي أو أي تسمية أخرى تعني الخروج عن القانون، يتمثل في ليبيا، فعلى الرغم من التخلص من حكم العقيد معمر القذافي الذي دام أربعين عاماً، والمعارك الطاحنة التي شنتها المعارضة بدعم خارجي بامتياز، فإن (الدولة) أو المجلس الانتقالي، لايزال عاجزاً عن تنظيم انتخابات بسبب عدم توافر البيئة الأمنية المناسبة، فالاقتتال في كل مكان، والمسلحون ينتشرون في كل (زنقة وبيت)، وعملية الدهم والتصفيات والمطاردات وتحقيق الرغبات بالقوة العسكرية، مازالت من المظاهر الرئيسة والملامح الطاغية بعد إزاحة (الطاغية)، وسيبقى الوضع على ما هو عليه فترة طويلة، بسبب تضارب المصالح وانتشار العصابات وغياب الوعي وضعف الانتماء الوطني، وانشغال البعض في جمع الثروات في هذا الوقت الضائع الذي سيضيع كل شيء، وإلا لماذا تغيب أخبار ليبيا عن وسائل الإعلام العربية والعالمية؟ والإجابة، لأنها عادت إلى زمنها الأول، زمن البلد المقفل .

النموذج الثالث هو تونس، الذي وضعته المنظمات المعنية بقياس مستوى الحرية والديمقراطية على قمة القائمة، وادّعت أن هذا البلد حقق نقاطاً كثيرة في مسيرته نحو الحرية، فإذا بنا أمام حظر تجوّل، واعتداءات على مراكز الأمن الوطنية، وحرق المحال التجارية، والتحرش بالناس من قبل فئة متزمتة تطلق على نفسها (التيار السلفي)، ويتوقع البعض أن تشهد تونس هجمات مسلحة بسبب تهريب الأسلحة إلى مجموعات ترفض طبيعة الحكم الحالي، والدستور المتفق عليه، وهذا يعني أن الحريات في تونس ستتراجع تراجعاً مخيفاً في الأيام المقبلة، وما يحدث في الواقع أكثر بكثير مما تنشره وسائل الإعلام العربية والأجنبية .

النموذج الرابع هو العراق، سنوات مرت على إطاحة نظام صدام حسين، ولا يزال العراق يشهد تفجيرات دموية طائفية أو غير طائفية، ولايزال أركان الحكم يتقاتلون ويكيلون التهم بالإرهاب والعمالة لبعضهم بعضاً، وسيستغرق الأمر وقتاً حتى يكتب لهذا البلد الاستقرار .

النموذج الخامس والقادم هو سوريا الغارقة في دمها، ففي الوقت الذي تدور فيه معارك طاحنة، منذ 15 شهراً، كان ولايزال، يخرج المسؤولون من هنا وهناك بالحديث عن (سلمية) التحرك، وهذا البلد سيعيد التجربة المصرية بحذافيرها، لأن المعارضة لم تصل حتى الآن إلى الحكم، ورغم ذلك تتقاتل فيما بينها، وعلى أرض الواقع تعمل عشرات التنظيمات والجماعات الليبرالية والإسلامية والمعتدلة، كل لمصلحتها، بينما الإعلام يتحدث عن طرفين فقط: الجيش السوري الحر، والمجلس الوطني السوري، وكلاهما غير متصالحين .

ماذا يعني كل ما تقدم غير أن الشعب العربي جاهل بأدنى معايير الديمقراطية وحقوق الإنسان وهو القبول بنتيجة صندوق الاقتراع، ورافض للطرف الآخر، ومتمسك بالقبيلة والمذهب والطائفة والعقيدة، ولا أحد يتمسك بالوطن ومصيره وبنائه ومستقبله؟

التعايش مبدأ وطني وإقليمي وعالمي، إنساني وسياسي ومذهبي وتنموي، ولا بد من القبول بالآخر لسبب بسيط هو أنه موجود منذ مئات السنين، ولا بديل له غير أرضه ومكانه، لكن المشكلة الكبرى هي أن جنسية المواطن صارت مذهبه وعقيدته وليست انتماءه إلى البقعة الجغرافية التي يعيش فيها، وحتى يتم الوصول إلى تحقيق القناعة بهذا المبدأ، ستبقى الشعوب العربية تتناحر وهي غائبة عن الوعي، وأشبه بشخص ثَمِل يواجه حائطاً مسدوداً ولا يرى شيئاً سواه، فهل يستحق العرب الديمقراطية وهم غارقون بما هم فيه؟

– عن الخليج