
الموارد البشرية والعوائق المهنية
د. فاطمة الصايغ
تنفق دولة الإمارات سنويا ملايين من الدراهم والآلاف من الساعات التدريبية والتأهيلية في إمداد موظفيها وكوادرها البشرية بالمهارات والخبرات اللازمة وتزويدهم بالأساليب العصرية الحديثة القادرة على تسهيل انخراطهم في سوق العمل بكل كفاءة ومهنية وتنافسية.
كما تحرص المؤسسات العامة المختلفة على تشجيع موظفيها على الانخراط في دورات تدريبية وورش عمل كفيلة برفع إنتاجية الموظف وتنافسيته.
فلا تخلو إدارة من إدارات الدولة أو مؤسساتها من دائرة أو أكثر تهتم بالموارد البشرية، ولا تخلو مؤسسة عامة من برامج تطويرية وتدريبية على مدار العام. وهي كلها بلا شك دلائل واضحة على اهتمام الدولة بالمواطن كاستثمار طويل الأمد.
ولكن من يتابع مجريات وأوضاع سوق العمل في الإمارات وأوضاع العمالة المواطنة بشكل خاص يكتشف أمورا عجيبة. شبابا مواطنين يتوقون إلى التقاعد المبكر بعد انخراطهم بقليل في سوق العمل .
وبعد اجتيازهم لدورات وورش عمل تدريبية أنفقت الدولة عليها ملايين الدراهم، وموظفين أكفاء ذا خبرات طويلة في مجال عملهم اختاروا التقاعد بعد أن يئسوا من تحسن أوضاعهم الوظيفية وبعد أن سدت الأبواب في وجوهم بحجة أن الإدارات بحاجة إلى دماء جديدة شابة، وموظفين أكفاء اختاروا التخلي عن وظائفهم الحكومية ولجأوا إلى القطاع الخاص الأجنبي ليس فقط لأنه أريح بل لأنه رحب بهم وفتح أمامهم فرص وأبواب الترقي الوظيفي والمهني.
هذا الوضع يطرح العديد من التساؤلات عن قوة العمل المواطنة والعوائق التي تواجهها في سوق العمل وفرص بقائها والرهان عليها كاستثمار طويل الأجل في ميدان المنافسة وفي ظل تلك العوائق المصطنعة التي نسمع عنها.
ففي الإمارات التي تعد رائدة ومبدعة في مجالات تطوير الأعمال ورياديتها كثيرا ما نسمع عن الحاجة لدماء جديدة تحمل فكرا إداريا وتنويريا جديدا يضخ روحا جديدة لسوق العمل ويبعث فيه روح التجدد والشباب. هذا التوجه يثير فينا الإعجاب لأن هذه المؤسسة أو تلك سوف تجند الشباب حديثي التخرج والذين يحملون .
بالإضافة بالطبع إلى الدماء الشابة، فكرا مختلفا وتجربة إبداعية جديدة وروحا فياضة متدفقة. ولكن هذا التوجه يصطدم بأرض الواقع حينما نرى أنه مطلوب من تلك الدماء الجديدة أن تمتلك مثلا شهادة عليا لا تقل أحيانا عن الدكتوراه في مجال تخصصها، بالإضافة إلى خبرة في مجال عملها لا تقل عن ثلاث سنوات.
مؤسسة وطنية أخرى تطلب خبرات أجنبية كبيرة في مجال تخصصها في الوقت الذي تمتلك فيه تلك المؤسسة كادرا مواطنا مؤهلا يمتلك من الخبرات في مجال عمله ما يوازي عشرة خبراء أجانب ومعرفة جيدة بشؤون تلك المؤسسة أضعاف ما يمتلكه القادم الجديد.
وربما كل ما يحتاجه ذلك الكادر المواطن لكي يتفوق ويبدع في مجال عمله هو بعض التدريب الحديث والتأهيل في طرائق الإدارة المعاصرة وبعض الدورات التدريبية في هذا المجال أو ذاك.
ولكن نتيجة لتلك النظرة السلبية للموظف القديم بأنه غير مؤهل وغير كفء وفاقد لروح التجديد يتم إقصاؤه وتهميشه لصالح آخر قد لا يعطي للمؤسسة جزءا بسيطا من عطاء الموظف القديم.
إذاً هناك نوع من الخلل ليس فقط في سوق العمل ولكن في تقييم الموارد البشرية المحلية انعكست على استفادتنا القصوى من الموارد التي نمتلكها. فلا الموارد الشابة أصبحت تغنينا عن اللجوء لغيرها، ولا الموارد البشرية القديمة وذات الخبرة تغني عن الاستعانة بالخبرة الأجنبية في مجال عملها.
هذا التناقض يكشف النظرة المتبعة حاليا في التعامل مع الموارد البشرية المواطنة المتاحة. فهي في رأينا المسئول عن ذلك الخلل الهائل الذي يشهده سوق العمل وذلك التناقض الذي نراه في كيفية النظر إلى الموارد البشرية وكيفية الاستفادة منها.
فكم من شاب ذي تخصص مطلوب في سوق العمل ينتظر سنوات وسنوات إلى أن يحصل على الوظيفة المناسبة لتخصصه، هذا إن حصل عليها، وكم من موظف كفء حاصل على أعلى الدرجات ومؤهل بالعديد من ورش العمل والدورات، ومتماه في عمله حتى أصبح عمله جزءا من حياته، يهمش ويقصى فقط لأنه وحسب النظرة المهنية الجديدة لا ينتمي لجيل الشباب .
ولا يحمل فكرا مهنيا جديدا، وكم من موظف بقي سنوات ينتظر درجة وظيفية مناسبة ليترقى إليها، مل الانتظار وقرر هجر العمل الحكومي برمته والاتجاه إلى القطاع الخاص حيث النظر إلى الموظف يقرره ميزان ما ينتجه وليس ميزانا نظريا بحتا.
إننا نعيش في مجتمع يجب أن يشعر المواطن فيه أنه مؤشر ايجابي وليس سلبيا لحركة التنمية. فلا يجب أبدا أن يشعر موظف كفء بذل الكثير في سبيل وظيفته أنه أصبح هما ثقيلا على جهاز الموارد البشرية في مؤسسته، .
ولا يجب أن يشعر موظف شاب أنه قاب قوسين أو أدنى من استبداله بآخر أو بأجنبي لأنه لا يمتلك المهارات الكافية والخبرات الكفيلة ببقائه في تلك الوظيفة، ولا يجب أن يشعر موظف آخر بأن القطاع الخاص الأجنبي يرحب به أكثر مما يرحب به القطاع الخاص الوطني.
إن كافة القطاعات هي في خدمة الدولة وبالتأكيد حين يمتلئ قطاع ويتضخم فإن القطاع الأخر يكمله ولكن حين يستطيع قطاع بعينه أن يكون جاذبا على حساب القطاعات الأخرى فهنا يحصل الخلل.
إن النظر للموارد البشرية المواطنة على أنها رصيد يجب الاهتمام به هي قضية من أولويات الحكومة ولكن هناك فئة من القائمين على تنمية هذه الموارد مسئولة عن تلك النظرة الهامشية التي تقسم الموظفين إلى أقسام وتعيق الاستفادة القصوى من كل طاقة بشرية.
فكل الطاقات يجب أن تؤهل لخدمة المجتمع سواء كانت طاقة شابة تملك رصيدا حيويا من التجدد أو طاقة مخضرمة تمتلك خبرة طويلة في مجال عملها وتمتلك عطاء غير محدود. فهي جميعا طاقة خلاقة يجب أن توظف في خدمة الوطن
– عن البيان