د. فاطمة الصايغ

تولي الدولة ملف التنمية البشرية أولوية قصوى لأنه ركيزة مهمة من ركائز التنمية المستدامة التي تسعى لها. ولا شك بأن للتنمية البشرية ركائز تقوم عليها أولها الاستثمار الجيد في العنصر البشري والتدريب والتأهيل والحفاظ على ذلك العنصر من التسرب والضياع.
فالتنمية البشرية تقوم أولا على الاختيار الجيد للعنصر البشرى ثم إمداده بالخبرة والمهارة عن طريق التدريب والتأهيل وتنتهي بالحفاظ على هذا العنصر من الهدر والتسرب حتى يمكن الاستفادة القصوى منه.
هذه هي فلسفة الدولة وهي بالتالي السياسة التي يجب أن تتبعها كافة الدوائر والمؤسسات الوطنية خاصة فيما يختص بالعنصر البشري المواطن.
فإلى أي مدى يتم تطبيق هذه الفلسفة وتلك السياسة؟ ولماذا تسير عملية التوطين ببطء شديد واحيانا عكس التيار؟ ولماذا ذلك التسرب الكبير في الكوادر البشرية المواطنة المؤهلة عن طريق إما التقاعد المبكر وإما التنقل إلى وظيفة أخرى وفي قطاع مختلف كل الاختلاف عن القطاع السابق بما في ذلك من هدر للتدريب والتأهيل ؟
إذا ما نظرنا إلى عملية التوطين خلال الأربعة عقود التي مرت من عمر الاتحاد نجد أنه وعلى الرغم من كافة الجهود المبذولة إلا أنه لا يمكن القول بأن العملية ناجحة تماماً أو أنها تطابق الفلسفة التي تنادي بها الحكومة. فهناك بطء كبير في عملية التوطين وهناك تسرب خطير للكثير من الكوادر الوطنية المؤهلة من وظائفها إلى وظائف أخرى لا تناسب المهارات التي تمتلكها. كما أن هناك هدرا كبيرا في الموارد البشرية من خلال عمالة مقنعة تشغل وظائف عديدة يمكن الاستغناء عنها وتحويلها إلى أماكن أخرى تعاني من نقص في الكوادر البشرية.
بمعنى آخر نحتاج في بعض المواقع إلى إعادة تدوير بحيث يتم الاستفادة من جميع الكوادر البشرية المواطنة وربما الاستغناء عن بعض الكوادر غير المواطنة وبالتالي تعديل الخلل في التركيبة السكانية إذا ما كان هناك رغبة حقيقية في هذا الأمر.
ولو تمعنا في الأوضاع فيما حولنا لرأينا أن هناك الكثير من الأمثلة على هدر وتسرب كوادر مواطنة مؤهلة نتيجة عدم توفر الحوافز وعدم توفر البيئة الجاذبة لبقاء مثل تلك الكوادر. فهناك أمثلة على مؤسسات وطنية فقدت في السنوات الماضية من الكوادر الوطنية المؤهلة أكثر مما جذبت.
هذا الأمر يدعونا إلى التساؤل في مدى تطبيق تلك المؤسسات لفلسفة الدولة في التوطين وغياب سياسة ملزمة لتلك المؤسسات بالإبقاء على العناصر المؤهلة وتقديم كافة أشكال الدعم والحوافز التي تحافظ على تلك العناصر من التسرب وتبقيها في تلك المؤسسات لأكبر فترة ممكنة.
إن نجاح عملية التوطين تقوم على عنصرين مهمين أولهما التشريعات والبيئة المحفزة وثانيهما رغبة العنصر البشري المواطن نفسه في البقاء والاستمرارية نتيجة توفر الحوافز والبيئة الجاذبة والمحفزة.
فإذا ما غاب عنصر من هذين العنصرين فقد التوطين ركيزة مهمة وصار غير قادر على إكمال وظيفته. فلا يمكن للعنصر البشري المواطن البقاء في بيئة طاردة وغير محفزة ومليئة بالعقبات الاصطناعية، وفي نفس الوقت إذا ما فقد العنصر المواطن الرغبة في البقاء على رأس عمله نتيجة لغياب التشريعات الملزمة فإن عملية التدريب والتأهيل تصبح هدرا في المال العام. إننا في عام الابتكار ننتظر من الحكومة قرارات مهمة تساعد على نجاح عملية التوطين لأنها أولوية قصوى لأمننا القومي، كما إنها أولوية مهمة لأمننا الاقتصادي.
فلا يمكن السكوت على عملية الهدر والتسرب في مواردنا البشرية عن طريق التقاعد المبكر، كما لا يمكننا ترك ملف التوطين دون معالجة جوهرية تنظر في أسباب ذلك التقاعد وأسباب البطء في عملية التوطين.
فقلة العنصر البشري المواطن ليس سببا وحيدا بل هناك أسباب أخرى تجعل من العنصر البشرى المواطن غير راغب في الاستمرار على رأس عمله، وهنا تكمن المشكلة. فلماذا لا يكون هناك دراسات علمية تنظر في أسباب هذا التسرب، ولماذا لا تكون هناك مقابلات لطالبي التقاعد كما هي لطالبي العمل للنظر جدياً في الأسباب التي تدعوهم للتقاعد المبكر أو ترك الوظيفة لصالح وظيفة أخرى؟ فلربما خرجنا بنتائج افضل وبفكرة أعمق واشمل عن الأسباب التي تدعو المواطنين بالتحديد إلى التنقل من وظيفة إلى أخرى أو التقاعد المبكر.
إننا بعد كل هذه السنوات اصبحنا بلا شك نملك كوادر مواطنة مؤهلة نفخر بها وأصبحت سياساتنا الداخلية سياسات واعية ولهذا يجب معالجة القضايا الوطنية كقضية التوطين بشكل علمي معمق حتى نستطيع إيجاد الحلول الكفيلة لها دون تضحيات كبرى.
– البيان