
لولا هذه الروح
علي عبيد
وتكمل دولتنا الأربعين من عمرها المديد، بإذن الله تعالى، والأربعون هي سن النضج والاكتمال، ووضوح الرؤية، وامتزاج المعرفة بالخبرة.
أربعون عاما حافلة بالحلم، مفعمة بالأمل، عامرة بالعمل، تمر أمام أعيننا مثل شريط سينمائي، نتحدث عنها من منظور جيل عاش كل لحظة من لحظاتها، رأى إرهاصاتها وتابع إشراقاتها، نام على أحلامها وصحا على إنجازاتها، ثم شارك، بعد ذلك، في كتابة ملحمة مجدها وصنع قصة نجاحها.
أربعون عاما، ولدت خلالها أجيال لم تعرف سوى دولة الاتحاد وطنا، ولم تعش سوى حقيقة الاتحاد واقعا، ولم ترض بغير الاتحاد بديلا.
أربعون عاما كانت الأنظار خلالها تتجه نحو القادم من الأيام، وكانت الأقدام خلالها تغذ المسير إلى الأمام، غير عابئة بما خلفها، اللهم إلا لأخذ العبرة وربط ما مضى بما هو آت، فالماضي صفحة محفوظة في سجل التاريخ، والمستقبل صفحة مفتوحة على كل الطموحات والأحلام.
أربعون عاما، كان الآخرون خلالها يزحفون، وكنا نحن في الإمارات نهرول في سباق مع الزمن، محاولين تعويض ما فاتنا.
أربعون عاما كان الآخرون خلالها ينظرون تحت أقدامهم، وكنا نحن في الإمارات ننظر إلى ما هو أبعد من الأفق، لنعلي صرح بنياننا.
أربعون عاما كان الآخرون خلالها ينامون ليحلموا، وكنا نحن في الإمارات نسهر كي نحول الأحلام إلى حقائق على الأرض.
أربعون عاما لم نشعر خلالها بمرور الزمن، لأننا كنا نضع الأيام خلفنا، وننثر الورود في دروبنا، ونزرع الخير من حولنا.
أربعون عاما كل يوم منها بعام، وكان كل عام منها بأربعين عام.
كان الفجر ينسج لنا خيوط الأمل، وكان الآباء المؤسسون ينسجون لهذه الأرض حلة لا مثيل لها بين الحلل.
كانت الكيانات الوحدوية في وطننا العربي تتفتت وتضمحل، وكان كياننا الوحدوي يتحدى الواقع ويكتمل، معلنا نفسه نسيجا فريدا، وخطوة واثقة غير قابلة للفشل.
كانت أوائل السبعينات من القرن العشرين، وكان الصغار يراقبون ما يحدث ببراءة الأطفال، ويعيشون الحدث بطموح وآمال الكبار، يتمنون لأنفسهم وطنا يباهون به الأوطان، ويفخرون به على مر الزمان.
كبر الصغار وكبر معهم الحلم، غادر أولئك الصغار عالم الطفولة، ولم يعد الوطن مجرد حلم يداعب خيالهم، أصبحت الإمارات المتناثرة على الخليج العربي وبحر عمان، دولة يشار إليها بالبنان، وأصبح الأطفال رجالا يصنعون مجد الوطن، ويصونون ترابه، ويعلون بنيانه.
ماذا قدم لنا الوطن وماذا علّمنا؟
قدم لنا الوطن الكثير، وعلمنا الكثير، قدم لنا الأمان والاستقرار، وجعلنا نشعر بالفخار. علمنا أن التفرق ضعف وأن التجمع قوة، فمضينا نوحد صفوفنا ونجمع شتاتنا. علمنا أن المواطنة ليست أوراقا ووثائق ننجز بها معاملاتنا، وأنها ليست جوازات سفر نقدمها لموظفي المعابر لنسهل بها دخولنا وخروجنا، علمنا أن المواطنة انتماء نحمله في قلوبنا، ونغذي به أرواحنا، ونحوله إلى فعل يدعم أقوالنا.
ماذا قدمنا نحن للوطن؟
قدمنا نحن للوطن أغلى ما نملك، وضعنا أرواحنا فوق أكفنا وقدمناها هدية له، وبذلنا الغالي والنفيس كي نرفع رايته ونعلي صرحه.
كانت روح الاتحاد هي سر ولادة هذا الكيان الوحدوي قبل أربعة عقود، وكانت هذه الروح سر بقائه طوال هذه العقود الأربعة، وكانت هي سر صعوده من نجاح إلى نجاح.
آمن الآباء المؤسسون بأن روح الاتحاد هي الأساس القوي الذي يجب أن يقوم عليه بنيان دولتنا، فمضوا يرسخون هذه الروح في نفوسنا، قبل أن يضعوا أولى لبنات دولة الاتحاد فوق أرضنا.
آمنوا بأن روح الاتحاد هي الجوهر، وأنها سر بهاء المظهر، آمنوا بأنها هي الأقوى، وأنها هي الأخلد والأبقى.
لهذا سرت هذه الروح في نفوس أبناء الإمارات، منذ عهد التأسيس وحتى عهد الاحتفاء بمرور أربعين عاما على إنجاز الحلم، وظلت هذه الروح تغذي النفوس وتمدها بالعزم، لتمضي في طريقها دون أن تلتفت للحاسدين والمثبطين والذين في قلوبهم مرض.
واليوم، عندما تختار دولتنا “روح الاتحاد” شعارا للاحتفال بمرور أربعين عاما على قيامها، فإنما تعود إلى الجذور التي ضربتها في الأرض، وإلى الأسس الراسخة التي قامت عليها.
فلولا روح الاتحاد ما كان لتلك القلوب أن تتصافى، ولولا روح الاتحاد ما كان لتلك الأيدي أن تتلاقى، ولولا روح الاتحاد ما كان لهذا الكيان أن يظهر للوجود، ولولا روح الاتحاد ما كان له أن يواجه المصاعب والتحديات، ولولا روح الاتحاد ما كان لنا أن نحتفي اليوم بإنجاز عقود أربعة من عمر دولتنا المديد بإذن الله تعالى.
لقد استلهم القادة المؤسسون “روح الاتحاد” وهم يقفون شامخين تحت علم الاتحاد، ليعلنوا قيام دولة الإمارات العربية المتحدة في الثاني من ديسمبر عام 1971، وظلت هذه الروح ترفرف فوق هذا العلم، كما هي أرواح أولئك الآباء المؤسسين التي لم تغب عنا رغم رحيل أجسادهم.
اليوم تعود “روح الاتحاد” لتعيدنا إلى تلك الأيام الخالدة من تاريخنا، تنقلنا إلى أجواء الثاني من ديسمبر 1971 التي تعطر ذاكرتنا، وتشحذ نفوسنا لإكمال المسيرة المباركة، وتلهمنا العزم على المضي قدما في ترسيخ اتحادنا، كي تبقى دولتنا ملء الأسماع والأبصار، وملتقى الأرواح المتآلفة، تحت راية الاتحاد التي ستبقى خفاقة ما بقيت “روح الاتحاد” تجمعها وتؤلف بينها.
– عن البيان