في عام 1660 نُشر أول إعلان عن شراب الشوكولاتة في مدينة أكسفورد الإنجليزية، تحت عنوان مضلل «فضائل مشروب الشوكولاتة من شرق الهند»، فالشوكولاتة لم تكن تستورد آنذاك من الهند، ولكن من أمريكا اللاتينية، أما وعود المعلن للمستهلكين بفوائد الشوكولاتة فجاءت أكثر تضليلاً، فالشراب دواء يعالج السل، ويطرد السموم من الجسم، وينظف الأسنان، ويداوي عسر البول، وكتب المعلن في النهاية عدة أبيات شعرية ركيكة تقول: لا حاجة للنساء أن يحزنّ بعد الآن/ وإذ يستخدمن الزيوت ولا ينجبن/ فهنّ يحتجن إلى لعقة من الشوكولاتة/ ليحصلن على نتائج فورية.

تميزت الشوكولاتة بسحر خاص طوال تاريخها، وارتبطت بالفرح عندما يهدينا أحدهم قطعة منها، وبأحاسيس مختلفة تغزونا ونحن نتجول في المتاجر الكبرى ونشاهد أنواعها المختلفة، كأن لا نهاية لها، بعضنا تنتابه السعادة لمجرد رؤية هذا الفضاء حتى ولو لم يقدم على الشراء، والبعض الآخر سيسأل عن السر الذي دفع البشر إلى كل هذا التفنن في الشوكولاتة، والتي ارتبطت أيضاً بالحب، ربما يعود ذلك إلى حبة الكاكاو، وهي على شكل قلب. فالشوكولاتة تمنحنا قبساً من طمأنينة الأبوّة، والسبب يرجعه البعض إلى ذلك التقليد في نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما وزعها الجنود على الأطفال بعد إنزال النورماندي، أي أنها نجحت في أن تخلق لنفسها مكانة رمزية في ثقافتنا الحديثة، لا تقل عن تقدير شعوب المايا والأزتيك لها، التي استخدمتها كنقود بدلاً من الذهب، وكان الكاكاو حاضراً في جميع ممارساتها، في الترحال والدفن والزفاف وموائد الطعام.

امتنان

شعر البشر دائماً بالامتنان تجاه الشوكولاتة، ولذلك دلّلوها، وفي كتابهما «الشوكولاتة..التاريخ الكوني»، يؤكد أليكساندر بادنوتش وسارة موس، على أن الشوكولاتة لقيت دائماً معاملة مميزة، فكانت ملفوفة في مغلفات فاخرة ضربت على وتر الأمومة والألفة والرومانسية، ومحفوظة في علب داعبت مخيلاتنا طويلاً، لقد صممت تلك العلب لتكون بمثابة خزائن صغيرة نستخدمها في أشياء خاصة بعد الانتهاء من الشوكولاتة، ومن منا لا يتذكر أشكالها المربعة والمستطيلة والأسطوانية المزينة برسومات أو لوحات تحيل إلى القلب، وهناك من خبأ فيها رسائل غرامية، أو ملأها بشهاداته التعليمية، وأوراقه المهمة.

في بداياتها كانت الشوكولاتة ارستقراطية، ففي حضارة المايا تناولها الأغنياء فقط، وحافظت على تلك الطبقية عندما اقتحمت عالم الأدب، فروايات العصر الفيكتوري، ربطت دائما بين الشوكولاتة والفئات المخملية من المجتمع، وهي السمة نفسها التي نلمحها في التشكيل، فهناك عدة لوحات صورت مركزية الشوكولاتة في حياة العائلات الثرية. ولكن في نهايات القرن التاسع عشر بدأت «دمقرطة» الشوكولاتة، عندما أدرك أصحاب المصانع الطاقة التي يمكن أن تمنحها للعمال، فضلاً عن دورها في تحسين المزاج، ومع الحرب العالمية الأولى وزعت ضمن جرايات الطعام على الجنود.

وحتى نهاية القرن السابع عشر ظلت الشوكولاتة إسبانية تماماً، وفي منتصف القرن التالي، دخلت البلاط الفرنسي، وافتتح أول مقهى لها في أكسفورد عام 1660، وفي كل بلد تركت قصة، ففي عام 1879 قدمت سويسرا إسهامها المميز، حيث أضافت إلى الشوكولاتة الحليب المجفف، واخترع رودولف ليندت عملية ميكانيكية تعرف باسم «كونشينج»، وتتمثل في تسخين شراب الشوكولاتة بهدوء، ما ينتج كتلة ناعمة ومذاق أفضل، وأدخلت بلجيكا الحشوات المختلفة إلى الشوكولاتة، وافتخر الاتحاد السوفييتي بشوكولاتة وطنية تدعى «اليونكا»، كانت الوحيدة المتاحة خلف الستار الحديدي، ونعرف من كتاب «الشوكولاتة..التاريخ الكوني»، أن شغف اليابانيين بالشوكولاتة أدنى من الأوروبيين والأمريكيين.

قوى عظمى

كانت الشوكولاتة رحيمة عند مقارنتها بالمحاصيل الأخرى التي جاءتنا من العالم الجديد، فيخبرنا التاريخ أن ما يقرب من 10 % فقط من العبيد اشتغلوا في مزارع الكاكاو، خاصة في فنزويلا، وفي كتابه «الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية»، يذهب إدواردو جاليانو إلى أن أباطرة الكاكاو والمرابين والتجار شكلوا طبقة هيمنت على مقدرات فنزويلا طويلاً، وأعاقت التنمية في البلاد ورسخت الاستغلال والتخلف، والصورة نفسها استنسخت في البرازيل، وفي النصف الثاني من القرن العشرين كانت الدول الأساسية المستوردة للكاكاو: الولايات المتحدة، بريطانيا، ألمانيا، هولندا، وفرنسا، تشتري الكاكاو من البرازيل والإكوادور بأرخص الأسعار، ثم تصدر الشوكولاتة الفاخرة، ولعبت القوى العظمى في صناعة الشوكولاتة على إشعال نار المنافسة بين الكاكاو اللاتيني، ونظيره الإفريقي، ما أدى إلى تهاوي أرباح تلك الزراعة في ستينات القرن الماضي، وتشرد الكثير من عمال مزارع الكاكاو، وهنا تبدأ المرحلة السوداء في تاريخ الشوكولاتة.

في العقود الأخيرة من القرن العشرين، انتقل مركز إنتاج الكاكاو إلى ساحل العاج وغانا، وبلغ إنتاجهما معاً 70 % من من الكاكاو في العالم، واعتمدت مزارع هذا النبات بالدرجة الأساسية على العمالة الرخيصة جداً: الأطفال، وقامت صحف عالمية عدة بتحقيقات استقصائية حول هذه المسألة، ووصل الأمر في عام 2002 إلى مطالبة البعض في الكونجرس الأمريكي بوضع عبارة «شوكولاتة خالية من الرق» على عبوات وقطع الشوكولاتة في الأسواق، وفي كتاب «شكولاتة.. خبايا الصناعة بين الأخلاق والربح» يورد سيمن ساترة نتائج أحد الاستقصاءات التي أجريت آنذاك، فنحو 625 ألف طفل دون الثامنة عشرة يعملون في مزارع الكاكاو في ساحل العاج، والمثير للانتباه أن ثلث هؤلاء لم يلتحقوا بالمدرسة قط، وشارك نحو 130 ألف طفل منهم في رش مواد سامة وأسمدة صناعية واستخدموا في عملهم آلات خطرة ربما تعرضهم للوفاة.

بدأت الشوكولاتة أرستقراطية، ورويداً رويداً أصبحت ديمقراطية في متناول الجميع، ويبدو أنها مثل كل الديمقراطيات لابد أن تمتنع على فئة ما.

 

 

 

الخليج