علي عبيد

منذ أن أتينا إلى الدنيا، ووعينا على الحياة، ونطقنا الشهادتين، وتعلمنا مبادئ الإسلام الحنيف، على أيدي والدينا وأهلنا أولا، ثم مدرسينا في المدارس التي التحقنا بها بعد ذلك، وحتى تبحّر من تبحّر منا في علوم الدين، وقرأ من قرأ منا بعض كتب الشريعة الإسلامية.. ونحن نعرف أن تطبيق الحدود من مسؤولية الحاكم المسلم وليس الأفراد، وفق شروط معينة فصّلتها كتب الشريعة.

وأن الشريعة السمحة درأت الحدود بالشبهات، وأن تطبيق هذه الحدود كان في حدود ضيقة جدا، وأن ما وصل إلينا من عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، وعهود الخلفاء الراشدين، رضوان الله عليهم، كان حالات تُعَدّ على أصابع اليد الواحدة.

ولا تُذكَر إلا لضرب المثل وإقامة الدليل على محاولة درئها بالشبهات، كما جاء في حديث “ماعز” الذي أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، طالبا منه إقامة الحد عليه لأنه زنى، فأعرض عنه النبي، صلى الله عليه وسلم، أربع مرات، ثم قال له: وهل بك من جنون؟ ث

م سأل عنه قومه ليتأكد من قواه العقلية قبل أن يأمر بإقامة الحد عليه. وكما جاء أيضا من أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عطّل حد السرقة عام “الرمادة”، بعد أن عمّت المجاعة وكثر المضطرون، فصعب التمييز بين من يسرق من أجل الحاجة، ومن يسرق وهو مستغنٍ.

نستذكر هذا ونحن نرى هذه الأيام إسلاما آخر غير الذي عرفناه وقرأنا عنه، ونشاهد مسلمين من صنف فريد، قرأنا عن نماذج منهم في تاريخ “الباطنية النزارية” أيام “حسن الصباح”، مؤسس فرقة “الحشاشين” وأشهر دعاة ذلك المذهب في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، وشاهدنا، عبر وسائل الإعلام، نماذج منهم في جبال “تورا بورا” ومجاهل أفغانستان.

وهي مجاهل ربما لا يتاح للكثيرين منا الوصول إليها. ولكن أن نجد هذه النماذج بيننا لتصبح جزءا من الواقع المعاش، فهذا هو ما لم نكن نتصوره، رغم كل ما يكتنف المشهد من غموض وفوضوية وانفلات في بلدان “الربيع العربي”، الذي يبدو أنه قد تحول إلى شتاء كئيب، في انتظار ربيع آخر يعيد للحياة صفاءها ورونقها، ودفقة الأمل التي رافقت ذلك الحراك الذي حسبناه ذات يوم “ربيعا”.

قبل أيام، نقلت إلينا كاميرات التلفزيون مشهدا مصورا لمجموعة من المواطنين الليبيين يتعرضون للجلد، دون أحكام قضائية، على أيدي رجال من جماعة “أنصار الشريعة”، التي تغلغلت في مدينة “سرت” مسقط رأس الرئيس السابق معمر القذافي، مستغلة الفراغ الأمني وغياب الدولة، لتطبيق أحكام الشريعة، دون عناء اللجوء إلى المحاكم، كما جاء في الخبر. ولا توجد معلومات عن الجرائم، أو “الذنوب” التي ارتكبها المواطنون الذين كانوا يتعرضون للجلد واحدا تلو الآخر، في ساحة عامة، من قبل رجال ملتحين، يرتدي بعضهم لباسا عسكريا.

وتسعى جماعة “أنصار السنة” إلى إنشاء محاكم شرعية في مناطق نفوذها، ولا سيما في مدينة “درنة” التي يقول السكان فيها إنها قد تحولت إلى ما يشبه “إمارة إسلامية”، بينما يتحدث سكان “سرت” عن عقوبات أقسى، تنفذها الجماعة لأدنى الأسباب!

يعتقد البعض، والله أعلم بما يعتقدون، أن هذه المشاهد هي البشارات الأولى لعهد الخلافة الإسلامية التي حلموا بها وانتظروها طويلا، لكنهم لا يقولون لنا أي عهد يقصدون؛ هل هو عهد الخليفة الأول “أبي بكر الصديق” رضي الله عنه، الذي ارتد فيه الكثيرون، بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، فاستغرق معظم وقت خلافته، التي امتدت سنتين، في محاربة المرتدين، ومحاولة إعادتهم إلى حضيرة الإسلام؟

أم هو عهد الخليفة الثاني “عمر بن الخطاب” رضي الله عنه، الذي يشكل النقطة الأكثر إضاءة في تاريخ الخلافة الإسلامية، لكنه انتهى بمقتل الخليفة العادل مطعونا بخنجر مسموم، وهو يصلي الفجر بين المسلمين؟ أم هو عهد الخليفة الثالث “عثمان بن عفان” رضي الله عنه، الذي انتهى بمحاصرته من قبل الذين ثاروا عليه، وقتله وهو جالس يقرأ القرآن في بيته؟

أم هو عهد “علي بن أبي طالب” كرم الله وجهه، حيث حدثت “الفتنة الكبرى” التي فرقت الأمة، وما زلنا نعاني آثارها حتى اليوم، وانتهت بمقتل الخليفة الرابع على باب المسجد قبيل صلاة الفجر، في شهر رمضان المبارك؟ أم هي عهود الدول التي تعاقبت على الخلافة بعد مقتل علي، وتحول الحكم عبرها إلى “ملك عضوض”، كما هو وارد في كتب التاريخ، لمن يريد أن يقرأ ويتعلم ويتعظ؟

عن أي خلافة يتحدث هؤلاء الذين يعتقدون أن تحرير فلسطين، وإعلان القدس عاصمة لـ”لولايات المتحدة الإسلامية” التي يبشرون بها، سوف تحققه خطبة عنترية، يلهبون بها حماس الجماهير، ويستجدون بها هتافات أتباعهم التي لا تتجاوز محيط الغرف والميادين التي يخطبون فيها؟

نقول لهولاء الحالمين بتحرير فلسطين والقدس من على المنابر، وعبر هتافات المنخدعين بخطبهم الرنانة، إن من سبقهم إلى هذه المنابر وغيرها من المنصات، كان أفصح منهم لسانا، وأكثر حصافة، وأقل سفاهة، لكنه لم يغير من الواقع شيئا، إن لم يكن قد زاده سوءا.

ونقول لهم أيضا: من حقكم أن تفرحوا، إلى حين، بخلافة الأنظمة التي ثارت الشعوب عليها، بعد أن قفزتم إلى السلطة واستوليتم عليها، أما الخلافة الإسلامية فأنتم أبعد ما تكونون عنها، لأن من أول شروط هذه الخلافة توحيد الشعوب وإشاعة السلام بينها، أما أنتم فقد فرقتم الشعب الواحد، وأشعتم الانفلات والفوضى، فأي خلافة إسلامية هذه التي تتحدثون عنها؟

– البيان