عائشة سلطان

كلما تعمقت أكثر في حواراتك مع الآخرين، خاصة هؤلاء الذين “يقولون” إنهم هربوا لمواقع التواصل الاجتماعي من أجل أفق أكثر احتمالا لآرائهم وأكثر اتساعا للتعبير عن آرائهم، يتكشف لك أن بيننا وبين وعي الممارسة الحقيقية لحرية الرأي والتعبير أمد طويل، وعلى جميع المستويات، تكتشف أن الحرية ليست درسا في الكيمياء، وليست مباراة في كرة القدم بين فريقين يخرج أحدهما منتصرا والآخر مهزوما يتجرع الأسى ثم ينسى، الحرية وعي أولا، تربية مجتمعية طويلة المدى وطويلة النفس (بفتح النون والفاء)، الحرية ليست حبا من طرف واحد، الحرية تبدأ بك ولا تتوقف عند أحد، وما لم تحتمل رأي غيرك بتهذيب، فإن حرية الرأي تتحول إلى قمع الآخرين.
هناك من يبدأ معك حوارا حول عيد الحب (يوم فالنتاين) تقول رأيك بسعة صدر، توسع أفق الحوار ليتسع كثيرا عن ضيق الفكرة المستهلكة والممجوجة، والتي تنتهي غالبا بسؤال سطحي جدا: عيد الحب حلال أم حرام ؟ بينما المسألة أكبر وأعمق من ذلك، ففي الدين الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما مشتبهات، لكن في المشتبهات كلام كثير وطويل ومتشابك يحتاج وعيا وصبرا، لكن فجأة وبدون مقدمات وأنت ترفع السقف نحو مناقشة فكرة السوق وثقافة الاستهلاك القاتلة وتسليع القيم والعواطف يقذف محدثك في وجهك هذا السؤال: هل أنت من الليبراليين وكأنه يريد ان يقول لك : هل أنت ملحد؟
لا يجوز أن نبقى في دائرة الضيق هذه إلى الأبد، والذين سيظلون يناقشون مستجدات الحياة وقضايا من زاوية واحدة يحرمون أنفسهم من خيرات المعرفة ونور الثقافة الموجودة في بقية الزوايا، فما لم تطل على الخارج من كل النوافذ في منزلك لن تعرف أهمية الموقع الذي يحتله منزلك أولا كما لن تعرف يوما حدود المشهد الذي يطل عليه هذا المنزل، ونحن كالمنازل، وعقولنا مليئة بالنوافذ وعلينا أن نفتحها لنسمح بالنور أولا ولنر العالم من جميع الزوايا، لأن المعرفة قوة.
لماذا نبدأ بمناقشة فكرة عامة ثم نشخصنها ونربطها بأمور شخصية بحتة؟ لماذا يكون الحديث عن تدني الخطاب الذي يستخدمه بعض مستخدمي المواقع الاجتماعية على الشبكة ثم فجأة وبلا مقدمات نجد أنفسنا في دهاليز لا أول لها ولا آخر؟ ما علاقة استخدام الانجليزية بارتداء أو عدم ارتداء المرأة للعباءة في السفر؟ ما علاقة أن تتحدث عن توحش الرأسمالية والتوظيف التجاري للقيم وتحويله إلى سلع تباع وتشترى في السوق بكونك ليبرالياً أو حتى جناً أزرق ؟ لماذا يعيش البعض هوس الإحساس بأن هناك من يريد القضاء على الدين وأنهم حُماته الوحيدون؟ مع أن الله قال منذ 15 قرناً “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”؟
أتمنى من هؤلاء الذين يجادلون حبا في الجدل لا أكثر ، أن يعوا بأن تقديم الدين بهذه الصورة الضيقة لا يخدم الدين أبدا، بل يتضاد معه لأن الدين محبة وسعة أفق، والدين قائم على العلم والمعرفة والحوار والإقناع والاقتناع، “قل تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم” وحين أراد الله أن يرسل موسى إلى فرعون الذي تجبر وادعى الألوهية قال له ولهارون “اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى” دون تشنج ولا تخوين ولا تكفير ولا أي شيء مما نجده يملأ الساحات هذه الأيام.

– عن الاتحاد