د. محمد حسين اليوسفي

وجد حوالي 4 ملايين مسلم و105 آلاف من اليهود في ألمانيا، أنفسهم وقد اتحدوا على قضية بعينها، ووقفوا وقفة رجل واحدة إزاءها، ولا شك أنها من المرات القليلة التي يجتمع فيها هؤلاء حول رأي واحد. أما القضية فهي حكم أصدرته محكمة مدينة كولون، قضى بتجريم ختان الأولاد واعتباره إيذاءً للبدن يعاقب عليه القانون. وما كادت محكمة كولون الألمانية تنطق بهذا الحكم، حتى قامت “ثورة” عليها من المنظمات والاتحادات اليهودية والإسلامية على حد سواء.

فقد اعتبرت المنظمات اليهودية أن شعيرة الختان حينما يكون الولد قد بلغ يومه الثامن، من شعائر الديانة اليهودية الأساسية (دير شبيغل، 9/7). أما موقف المسلمين من ختان الأولاد فمعروف، تقول “الموسوعة الفقهية” التي أصدرتها وزارة الأوقاف الكويتية: “هو من الفطرة ومن شعائر الإسلام، فلو اجتمع أهل بلدة على تركه حاربهم الإمام، كما لو تركوا الأذان” (الجزء التاسع عشر، ص 27).

أما أصل “الحكاية” فيعود إلى الرابع من نوفمبر من العام 2010، حينما أخذ والدا صبي مسلم يبلغ الرابعة من عمره، ابنهم إلى عيادة وأجروا له ختاناً. ولكنهم بعد يومين أخذوه إلى قسم الطوارئ في جامعة كولون، لأنه كان ينزف من عملية الختان تلك.

فما كان من النيابة العامة إلا أن رفعت دعوى ضد الطبيب، فكان حكم محكمة الدرجة الأولى وقف الطبيب عن العمل، في حين أنها اعتبرت أن الختان من العادات والتقاليد التي تنتمي إلى المجتمع المسلم، وأن الأبناء سيعيرون من أقرانهم إن لم يكونوا مختونين، وهي ترى (أي المحكمة) أن للختان فوائد طبية.

غير أن النيابة لم تقتنع بهذا الحكم فاستأنفته، حيث قضى حكم الاستئناف برد الطبيب إلى عمله، وذلك لعدم وضوح القانون حول عملية الختان، إلا أنها اعتبرت الختان عملاً يؤذي البدن، وأن العملية الجراحية تلك لم تكن مبررة بناءً على موافقة الوالدين، وأن حق الطفل في أن يصان بدنه وتحفظ كرامته، تفوق حق والديه في حرية ممارسة شعائرهم الدينية التي ينص عليها الدستور الألماني، وأن الوالدين كانا يستطيعان الانتظار إلى أن يبلغ الصبي رشده، فيقرر هو بإرادته الحرة ما يشاء (دير شبيغل، 27/6).

ولم يعترض المسلمون واليهود في ألمانيا وحدهم على هذا الحكم، بل وقف معهم البروتستانت والكاثوليك وجماعات الخضر وغيرهم، وحتى أنغيلا ميركل المستشارة الألمانية، وصفت الحكم بقولها إنه “سيثير سخرية العالم منا”. وحجج هؤلاء تركز على أن الختان يعتبر من الشعائر الدينية، وحرية الاعتقاد مكفولة في الدستور الألماني.

وبالتالي فحكم المحكمة مخالف للدستور. وهو فضلاً عن ذلك تدخل في شؤون الأسرة، وفي ولاية الآباء على أبنائهم. ويحاجج هؤلاء بأن الأبناء يرثون الكثير من آبائهم، دون أن تكون لهم حرية الاختيار، كأسمائهم ونوع التعليم والهجرة وغيرها.

أما الجمهور الألماني فإنه يبدو منقسماً.

ففي ألمانيا مثلاً 15% من الرجال مختونون، وتجرى فيها 50 ألف عملية ختان سنوياً. لكن الغريب أن الختان بين الرجال شائع في الولايات المتحدة الأميركية، وذلك لاعتبارات طبية، إذ تفوق النسبة هناك الخمسين في المئة وربما أكثر، كما تبين مجلة دير شبيغل في مقاليها المشار إليهما.

إن حرية العقيدة التي كفلتها دساتير الدول الديمقراطية، وتطبيق مواد وبنود تلك الدساتير على أرض الواقع وفي الممارسة الحياتية الحقيقية، تكفل مثل هذا الجدل والحوار الحي، وهي تؤدي إلى اصطفافات سياسية تتجاوز الدين والجنس واللون. وليس غريباً أن يقف المسلمون واليهود والمسيحيون المتدينون والعلمانية مع بعضهم البعض، وأن يفترقوا حول قضايا أخرى داخلية أو خارجية كقضية فلسطين مثلاً.

فهل يا ترى، نحذو حذو هذه الدول في تسامحها الديني، فنناقش حقوق ومطالب المكونات الدينية والطائفية لمجتمعاتنا العربية بتلك الروح المتسامحة؟

– البيان