في ليبيا اليوم لا يتصدر الواجهة سوى هيمنة خطاب الاقصاء والروح الثأرية والانتقامية، وسيطرة الخطاب الاعلامي والديني المُحرّض على العنف والعزل والاجتثات، أمام أغلبية تلوذ بالصمت والخوف والإذعان رغم رفض هذا المبدأ، لأن من يتصدرون المشهد السياسي والاعلامي لا شيء يعنيهم سوى انتزاع هذا العرش الشاغر مهما كلف الثمن، ولا أحد يجرؤ في ليبيا الجديدة على الدعوة للمصالحة ورأب الصدع، فسيكون متهماً بالخيانة والتواطؤ مع عناصر النظام السابق.

الانفلات الأمني ما فتئ يكبر ويتسع في رقعته وفي الممارسات التي غذته ولاتزال تتغذى من ظاهرة الاتجار بالأسلحة أو ما يسميه المختصون بفوضى السلاح والذي يقترن بمصطلح آخر هو زيادة سيطرة ما يسمى الجماعات المسلحة والتي يعتبرها الكثير من الليبيين جماعات خارجة عن القانون تسعى إلى فرض قانونها وواقعها على الجميع وهو ما دفع المواطنين للخروج والاحتجاج في مظاهرات من اجل الحد من نشاط هذه الجماعات.

بنغازي واللا أمن

ما زاد الأمور تعقيدا هو استمرار العمليات الإرهابية في مدينة بنغازي، وهو مؤشر خطير يضاف إليه قانون العزل السياسي الذي يقول عنه الكثير من المتتبعين إنه لم يأت في الوقت المناسب لأن الأولوية هي إعطاء الفرص والمصالحة الوطنية بين الإخوة الليبيين. والأرجح أن العمليات الإرهابية في المدن الليبية الرئيسية.

وخاصة بنغازي، ستستمر على رغم الإجراءات التي اتخذتها وزارتا الداخلية والدفاع والقاضية بإنشاء «الغرفة الأمنية المشتركة» في بنغازي لتأمين المدينة وضواحيها. ونص القرار على القبض على المطلوبين للعدالة بناء على تكليف النيابة العامة، إلا أن الأجهزة الأمنية الضعيفة غير قادرة على إنجاز تلك المهام بحسب الخبراء، خاصة أن الجماعات المسلحة أكثر تسليحا وأفضل تدريبا من القوات النظامية.

ويرى عارفون بالوضع في ليبيا أن الدولة تحولت بالفعل الى مجرد سقف أو غطاء هش لقوى وجماعات مسلحة متصارعة سواء كانت قبلية أو جهوية أو مليشيات حزبية تفوقها قوة وقدرة، وأصبحت تلك المليشيات هي المحركات التي تقود الدولة الليبية كل في الاتجاه الذي يريد فرضه على البلاد، مما جعل من «الدولة الناشئة» في ليبيا تفتقد أهم مقومات وجودها وهي «ممارسة السيادة» على الأرض، والتي يفترض بأنها هي صاحبة القوة العليا، وهي التي تعلو فوق أي تنظيمات أو جماعات أخرى داخل الدولة وكذلك يجب أن تكون وحدها من تمتلك قوة الإرغام لضمان الالتزام بقوانينها، ومعاقبة المخالفين.

الفوضى الخلاقة

ندرك بأن المسألة لا تتعدى كونها صراعاً على النفوذ، ولكن هذا الاقتتال الشرس لن يفضي إلى شيء سوى دمار ليبيا خصوصاً وأن كل طرف ينتقم من الآخر عن طريق خلق مزيد من الفوضى ومزيد من الانفلات في الشارع وكل يجنّد أنصاره لتدمير البلاد حتى يثبت للرأي العام فشل خصومه. وليبيا وحدها الضحية وهؤلاء الملايين من البسطاء والفقراء والمهجرين وحدهم من يدفعون ثمن صراع هذه الفئات القليلة المتناحرة.

عراق جديد

يرى العديد من المراقبين المحايدين أن الحل لإنقاذ ليبيا هو المصالحة الوطنية الشاملة والتعجيل بقانون العدالة الانتقالية، فليبيا، تتجه بأن تكون «عراقاً جديداً» وأهلها أحوج ما يكون لنبذ العنف والانتقام وسياسة تصفية وإقصاء الخصوم. لأن ليبيا لن تنهض من محنتها إلا بالجميع، فإن مسلسل العنف والانتقام لن يولّد إلا العنف والدمار. إنها بالفعل في حاجة لإطلاق مبادرة «المصالحة والحقيقة» ودون أي تدخل أو وصاية خارجية.

-البيان