د. فاطمة الصايغ

هل فشلنا كخليجيين عموما في مواجهة تحديات الحداثة؟ وهل زادت الحداثة في هذه المنطقة عن حدها لدرجة أفقدت الانسان الخليجي صلته بواقعه الحقيقي وبماضيه القريب وحولته الى كأئن مسكون بهم كبير الا وهو هم التنمية والتغيير؟ وهل تحولت الحداثة في هذه المنطقة الى هم وحالة نفسية جعلت الفرد من فرط افتتانه بالحداثة والتغيير يصل الى درجة الهوس بحيث لا يقبل بأي شيء لا يرتبط بهما؟

وهل زادت الحداثة لدرجة أنها أصبحت تسبب غربة حقيقية للفرد وقلقا مبررا لجميع الاجيال بما فيهم الشباب؟ أم لا زلنا نعول على الحداثة في أن تخرجنا من نطاق التركيز على الذات المحلية والعصبية العشائرية الى نطاق أوسع يؤكد قدرة انسان الخليج على التفاعل الحي مع جواره الاقليمي والعربي؟

قبل نصف قرن أفاقت مجتمعات الخليج على عامل مؤثر جلب معه الكثير من التغير وقليل من الثبات. لقد جاء النفط ليقلب الموازين رأسا على عقب وليوفر لإنسان هذه المنطقة ثروة طائلة يستغلها لإحداث تغيير جذري ليس فقط في نمط حياته وأسلوب معيشته بل في قيمه وأخلاقياته ونظرته للأخر. لقد حل الترف محل البساطة وحلت غابات الاسمنت محل بيوت السعف.

وحل الرخاء محل الكفاف، وحلت قيم جديدة مستنسخة محل القديمة البالية، وتغير المجتمع من أساسه ليولد لنا مجتمع جديد في كل شيء، في أسلوب حياته ومعاملاته، في قيمه وأخلاقياته، إنه مجتمع حديث براق كل ما فيه يلمع كالذهب.

لقد أصبحت مجتمعات الخليج فجاءة تصنف في قائمة المجتمعات العالمية الحديثة بكل ما يحمله هذا التصنيف من إيجابيات وسلبيات ومظاهر جديدة وتحديات يأتي على رأسها غربة الفرد في محيطه وبيئته. وصاحب هذا التحول أعراض جديدة تسمى عادة بأعراض الحداثة، وهي الرغبة في التأقلم مع الجديد والتمسك الى حد الهوس بالقديم الذى ترفض مظاهره ان تغادرنا.

تأثيرات هذا التحول على البيئة الخليجية كانت كبيرة ولكنها كانت أكبر على الانسان الخليجي. ففي فترة قياسية كان على إنسان هذه المنطقة أن يعيش ويتأقلم في بيئة مصطنعة وكل ما فيها مستورد. فلا غرو ان تخلق هذه البيئة الحديثة غربة حقيقية للفرد ظهرت عليه حتى وهو يحاول التأقلم معها وتطويع اسبابها لخدمته وتوفير سبل الراحة له. هذه الغربة لم ترحم حتى أولئك الذين ولدوا من رحمها، فهم أيضا عانوا من قضية حقيقية لا تزال تؤرق مجتمعات الخليج الا وهي هويتهم وانتماؤهم.

ولا شك أن كل بيئة تحاول الأخذ بمظاهر الحداثة تشهد ذلك الصراع الأزلي بين القديم والجديد، بين الثابت والمتغير، بين الجامد والمتحرك. ولا شك أيضاً أن للبيئة الطبيعية والجغرافية دوراً مهماً في تشكيل نوعية التحديات التي يشهدها سكان مجتمعاتها.

فالصحراء العربية مثلا، رمت بأثارها الكبيرة على موروث أهل الخليج بكامله من عادات وتقاليد وأنماط حياتية أثرت على الفرد ومجتمعه. لذا فالتحديات التي يواجهها إنسان الخليج تختلف عن غيره. فمثلا، إنسان هذه المنطقة حتى وهو يأخذ بأساليب الحداثة لا يمكنه أن ينسى تأثير مجتمع البادية والقبيلة والعشيرة على موروثه الاجتماعي وطريقة تفكيره ونظرته للحياة وطريقة تناوله وتعاطيه مع القضايا والمستجدات المجتمعية.

لذا يقال إن الشخصية الخليجية عموماً تميزت بعدة صفات وهي تصارع من أجل الأخذ بالحداثة منها على سبيل المثال لا الحصر، ازدواجية الشخصية والنظرة الاجتماعية الضيقة والنظرة الدونية للمرأة، هذا بالإضافة بالطبع إلى التأثير الدائم والمطلق للقبيلة والعشيرة على تعامل الفرد مع محيطه الضيق والواسع.

وهي صفات لا يمكن الا أن تكون من ترسبات مجتمع البادية التي ترفض أن تغادرنا حتى ونحن نرفل في حلل الحداثة الجديدة. لذا يقال إنه تحت كل تلك المظاهر البراقة واللامعة لمجتمعات الخليج هناك شخصية خليجية قلقة وغير مستقرة تعاني من خوف دائم من آثار تلك الحداثة الزائفة وتحن الى الرجوع للماضي بشكل دائم. أنها الشخصية الخليجية الجديدة.

ولعل أكثر الناس قلقا من تقلبات الشخصية الخليجية الجديدة وأثارها السلبية على الدولة والمجتمع هي الطبقة المثقفة او ما يسمى بالنخب. فهي تعتقد بأن تلك الشخصية الجديدة سوف تدفع الانسان باتجاه تبني تيارين كليهما غير صحي، وهما الانعزال أو التطرف.

أما الانعزال فيخلق حالة من الانكفاء على الذات لدى الفرد وحالة من التركيز على الداخل عند الدولة، وأما التطرف فتخلق حالة من اللجوء الى العقائد والتيارات عند الفرد وحالة من العنف والعدوانية وتمجيد الذات عند المؤسسات. لذا فالأخذ بالحداثة البسيطة او تلك التي تتناسب مع احتياجات المجتمع البسيطة هي أفضل حل لتجنب الحداثة الزائفة وتأثيراتها.

نعم للحداثة إيجابيات كثيرة استفاد منها الفرد والمجتمع الخليجي على حد سواء، ولكن لها أيضا ضريبة باهظة تدفعها تلك المجتمعات وهي تأخذ بأسباب الحداثة، ضريبة حقيقية يدفعها الفرد من قيمه وهويته وانتمائه وفي بعض الأحيان من حقه الطبيعي في أن يحيا ويتنفس هواء نقيا غير ملوث، ويدفعها المجتمع من أمنه واستقراره.

وبالنسبة لدول الخليج فضريبة الحداثة معروفة، أنها ضريبة يدفعها الفرد من موروثه الذي يرفض حتى الأن أن يغادره حتى وهو يرى المستقبل يصنع أمامه، وضريبة تدفعها الدولة من أمنها القومي. لذا فالصراع في دول الخليج بين الاصالة والمعاصرة سوف يستمر ما دامت الحداثة غير مقننة.

لقد استطاعت دول الخليج أن تجلب كل أسباب الرخاء والرفاه لساكنيها، ولكنها يمكن أن تكون فشلت في مواجهة تحديات الحداثة الصعبة. فالأجيال القديمة لا تزال تمجد ذلك الماضي القريب بكل ما فيه من قيم مطلقة وأصيلة، والجيل الجديد لا زال حائرا بين الأخذ بأسباب الحداثة التي تدفعه دفعا نحو المستقبل والتمسك بالموروث الذى يرده الى الوراء. إنها حقا إشكالية الحداثة في الخليج.

– عن البيان