د.موزة أحمد راشد العبار

كتاب التاريخ ما هو إلا السجل الذي يحفل بمجموعة المواقف والأحداث والخبرات والتجارب التي تحدث في زمن ما وفي مكان ما، وعلى مدى الحقب الزمنية المختلفة استطاعت المجتمعات الإنسانية أن تنتقل من مرحلة حضارية إلى مرحلة حضارية أخرى.. ولم يكن بمقدور الأفراد أو الجماعات الانتقال من وضع إلى وضع أفضل منه، إلا إذا تيسرت لها قيادة ملهمة، قادرة على استيعاب روح الجماعة، بل والسير بها ومعها في اتجاه التقدم للأمام.

. وبرؤية خلاقة ترى ما لا يراه الآخرون، وتمضي بهم بطموح لا تقف أمامه عقبات أو تحول دونه صعاب مهما عظمت.. ولم تسجل سطور ما كتب من سير إلا أعداداً يسيرة من الزعماء النابهين، الذين سجلت أسماؤهم في دفتر الزمن، ليكتب لها المجد والخلود.

وكان الراحل المقيم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان أحد هؤلاء.. مضى الرجل وبقيت سيرته العطرة تنداح عبقاً يضمخ الأجواء زمناً ليس بالقصير، بل إلى أبد الآبدين.. تمر ذكرى رحيل هذا الرجل القامة الذي سبق عصره وجاء ليبشر بفكر نهضوي، انبثق من واقع مجتمع كان يعيش في براثن الفاقة.

ووهاد التخلف والفقر المدقع، استطاع زايد الخير أن يتجاوز آراء من زعموا ألا أمل في تطوير مجتمع يفتقر إلى كل مستلزمات الحياة الضرورية، كالأرض الخصبة والماء العذب.. إلا أن الرجل لم يستسلم ومضى بعزيمة لا تلين، ليرسم على صفحة الرمال “خطة استراتيجية” ابتدعها من قناعته أن كل شيء ممكن متى ما توفرت الإرادة والإصرار على تخطي أي صعاب.

انطلق زايد الخير من قناعة ثابتة بأن المرأة نصف المجتمع، وأن المجتمع لا يمكن أن يصعد سلم التطور دون المشاركة الفاعلة للمرأة.. وهكذا استطاع زايد الخير أن يتخطى رواسب التفكير القبلي والعشائري، الداعي لحبس المرأة وإبقائها داخل خيمة البداوة ترعى الماشية وتربي العيال.. انطلق زايد من قناعة فكرية بأن مجتمع دولة الاتحاد لا يمكن أن ينهض ونصفه معطل.

بينما عندما كان الرجل يغيب فترات طويلة في رحلات الغوص، كانت المرأة تتولى إدارة شؤون الأسرة منفردة، في وقت لا وجود فيه لحضانات أو رياض أطفال أو حتى مدارس في معظم المناطق.. عندها كانت المرأة الأم تتولى مهام تربية الأبناء ذكوراً وإناثاً، ويذكر من بقي من جيل الأجداد والآباء تلك الأيام التي اندثرت..

وما إن تولى زايد شؤون الحكم حتى رأى أن نهضة وتطور المجتمع يتوقف أولاً وقبل كل شيء على توفير الرعاية الصحية والتعليم، فعمل على تأسيس أركان دولة الخدمات الأساسية، والتي استمرت حتى مطلع السبعينات، وخلالها تم الاجتماع بالرعيل الأول من نساء ناشطات، حيث تم تأسيس الاتحاد النسائي العام ليقود الحراك النسوي على مستوى الدولة، عبر فروع له في إمارات الدولة كافة.

ورأى أن ترأسه رفيقة دربه “أم الإمارات” سمو الشيخة فاطمة بنت مبارك، حفظها الله، والتي حملت بدورها لواء حركة نهضة وتطوير المرأة، هذه السيدة المفخرة التي شقت طريق الريادة من البدايات الأولى.. برؤية نافذة.. وبحس فطري بالغ الشفافية والحضور.. والتي سجلت عن جدارة واستحقاق، اسمها في كتب التاريخ..

وبالنسبة لنا نحن نساء الإمارات، تمثل لنا “أم الإمارات” الرمز والمعنى الدال على قيم الحياة العليا.. وهي الحق والخير والجمال.. وهكذا وبفضل جهودها وبمبادرات القائد الراحل، تم إنشاء مدارس لتعليم المرأة وأمر بتكثيف الجهود لمكافحة أمية النساء في البوادي والمناطق النائية، وهكذا تم إنشاء جمعيات النهضة النسائية في إمارات الدولة كافة، للعمل معاً تحت مظلة الاتحاد النسائي العام..

ولم تمضِ سنوات حتى انتظمت مراكز تحفيظ القرآن ومحو الأمية، ومراكز لتعليم المرأة طرق إدارة شؤون المنزل والتدبير المنزلي، فضلاً عن أساليب المحافظة على الصناعات التقليدية للمجتمع، وذلك حفاظاً عليها من الاندثار.

وفي مرحلة تاريخية لاحقة تم إنشاء مراكز للتنمية الاجتماعية، عندما انتقلت الدولة بقيادة زايد الخير من مرحلة توفير الخدمات إلى بناء الدولة الحديثة، دولة الرعاية والتنمية الاجتماعية والاقتصادية بمشاركة المرأة..

وهكذا شقت المرأة الإماراتية طريقها في اتجاه النهضة والتقدم، يصاحبها التوسع في إنشاء مدارس البنات في مختلف المراحل التعليمية، والتي ترافقت معها الحملة التي قادها الشيخ زايد، طيب الله ثراه، لحث الآباء على تعليم بناتهم، وأصبحت المدارس تشجع الطالبات على الاستمرار في الدراسة عوضاً عن الزواج المبكر.

ولم تمض سنوات على دخول البنات للجامعة، حتى انفتح الباب على مصراعيه لتدخل المرأة ميادين العمل العام كافة.. فأصبحت المرأة شريكاً للرجل، تعمل مهندسة وطبيبة ومحامية.. ومعلمه.. وإعلامية.. وكاتبة.. وأستاذه جامعية.. وعضواً برلمانياً.. ووزيرة وسفيره تمثل بلادها خارج الحدود، وهناك مئات الفتيات اللائي يواصلن تعليمهن لنيل درجات عليا في التخصصات العلمية والأدبية والفنية كافة..

ولم تكن لتحدث هذه الطفرة التنموية غير المسبوقة، دون المتابعة اليومية المستمرة من رئيس دوله يستيقظ مبكراً ليزور الجمعيات النسائية، وليقف بنفسه على سير الدراسة في مدارس البنات، عبر زيارات مفاجئة كان يقوم بها من حين إلى آخر.

لقد انتهج القائد الراحل سياسة متوازنة ومنفتحة، حققت علاقات وصلات وثيقة مع الدول العربية ودول العالم الأخرى.. كالدعم لكثير من المشاريع التنموية في الدول العربية.. وقام بزيارات دولية وعربية.. وكانت هذه الزيارات مثمرة، انعكست آثارها على تنمية دولة الإمارات.

ارتحل زايد الخير والعطاء في وقت كانت الأمة العربية بأسرها في أمس الحاجة إلى سياسته الحكيمة وفكره الناصح، المشبع بقيم العدالة والعطاء والتسامح وحب الخير.. مضى الرجل القامة وبقيت ذكراه العطرة راسخة في أذهاننا زمناً ليس بالقصير، بل إلى أبد الآبدين.

-البيان