خالد الظنحاني

يكتظ الفضاء العربي بالكثير من محطات التلفزة الفضائية، منها الجاد ومنها الهدام والهابط والبذيء، والأخيرة هي الأغلب الأعم.

وقد كشف التقرير السنوي للجنة العليا للتنسيق بين القنوات الفضائية العربية العائد إلى العام 2010، عن وجود 696 قناة حكومية وخاصة، تستعمل 17 قمرا صناعيا للبث، وتنفرد القنوات التي تهتم بالموسيقى والمنوعات بنسبة 25%، والقنوات الرياضية بنسبة 24%، ويستأثر قطاع الدراما بعدد مرتفع من القنوات الفضائية بنسبة 14%، والقنوات الفضائية الإخبارية بنسبة 7%، وصولا إلى القنوات الدينية والعقائدية والتي بلغ عددها 42 قناة، الأمر الذي يثير الحيرة والتساؤل في الوقت ذاته، حول حجم السموم الفكرية والثقافية الخبيثة، التي يبثها بعض هذه القنوات في نسيج المجتمعات العربية، والآثار التي تُحدثها هذه السموم في كيان المجتمعات وأفرادها.

لقد دأب معظم القنوات الخاصة أو التجارية، كأنسب تسمية لها، على اختلاف أشكالها ومضامينها، على إفساد الذائقة المجتمعية وتخريب القيم الإنسانية للمجتمعات والشعوب العربية، في سبيل تحقيق الربح المادي السريع.. وقد تنوعت مجالات هذه الفضائيات حسب ثقافة القيّمين عليها، فمنها ما خصص للغناء والرقص والأفلام، ومنها ما خصص للدين وهو منها براء، ومنها للأخبار المضللة، فضلا عن قنوات الشعوذة والسحر …إلخ.

إن أغلب ما تبثه هذه القنوات، عبارة عن قيم مادية استهلاكية مستوردة من المجتمعات الغربية، بهدف تحقيق الترويج للبضائع الاستهلاكية التي تنتجها، فبدون نشر ثقافة الاستهلاك لن تتمكن تلك المجتمعات الحديثة من الترويج لمنتجاتها وصناعاتها المتعددة والوفيرة. وبهذا النهج الاستهلاكي وما يرافقه من قيم فاسدة، والذي يقوم الإعلام بدور الناقل والمروّج له في الوقت ذاته، تتفسخ القيم وتتبدل القناعات شيئا فشيئا، إلى أن نصل إلى فساد المجتمع الذي هو حاضن أمين للأسرة النواة، التي يعتمد عليها المجتمع في تماسكه وتلاحمه وتعاضده.

وقد أكدت دراسة صدرت مؤخراً، أن الطفل المتابع للقنوات الفضائية يتأثر بما يتلقاه من أفكار ومعلومات تأثيراً كبيراً، حيث تظهر نتائج هذا التأثير عندما يكبر في السن، ذلك أن تأثيرها يصل إلى العقل اللا واعي ويبقى في ذاكرته إلى أن يصل إلى سن الشباب. كما أن الصورة التي تبثها الفضائيات حساسة جداً، إذ إن الصورة الواحدة تعبّر وتُغني عن عشرات المقالات المكتوبة أحياناً.

نستغرب حجم الاستهتار الذي يبديه بعض هذه “المحبطات الفوضوية” إن جاز التعبير.. في أكثر من اتجاه. فمثلا، فوضى المذيعين الذين تزج بهم هذه القنوات بلا علم ولا موهبة ولا “كاريزما”.. وكذلك اللغة، وهي التي من المفترض أن تكون العربية، فحدث ولا حرج، إلى درجة أن المشاهد عندما يرى هذا المذيع أو ذاك يشفق عليه ويرثي لحاله. فما يبدر منه من تصرفات تجعله كالمهرج على شاشة القناة التي وضعته في موقف لا يحسد عليه، فهل هكذا تورد الإبل؟ هل أصبح الإعلام مهنة من لا مهنة له؟ وهل إلى هذه الدرجة وصل بنا الإفلاس في التعاطي مع المشاهد العربي، والذي وصفته الدكتورة حصة لوتاه في أحد حواراتها بـ”المتابع السلبي”؟

وفي هذا الازدحام الفضائي يحضر الإعلام اليوم متخذا أشكالاً عديدة، منها الإعلام الهادف والذي يمتلك رسالة واضحة وهدفاً محدداً يريد تحقيقه، إضافة إلى الإعلام المحايد الذي ينقل القضية دون تدخل في صياغة الرأي العام لدى الجمهور المتلقي، والإعلام الموضوعي وهو الذي يطرح القضايا والأخبار بأسلوب علمي، ويتخذ الإجراءات العلمية ليتحقق من دقة ما يقدمه، كما ويتجنب الإثارة المفتعلة. فضلاً عن الإعلام المسؤول الذي يعي أهميته ودوره في المجتمع، وينطلق من وعيه بالمسؤولية من أجل تحقيق أهدافه والواجبات التي تمليها عليه مسؤوليته..

وأخيرا “الإعلام الحر”، وما أدراك ما الإعلام الحر، ذاك الذي قلب موازين الإعلام الحقيقي إلى أسوأ ما يمكن أن نتصوره في بدهيات ومبادئ الإعلام. وليس ذلك لأنه يمتلك قراره في يده، بل لأن القيمين عليه فهموا الرسالة بالمقلوب، وجعلوا أنفسهم أباطرة الإعلام الفضائي، حيث لا تستطيع أية مؤسسة أو مسؤول حكومي أن يقف في طريقهم الأعوج والمنحرف.

وبهذه المناسبة، تجدر الإشارة إلى مبادرة معالي الفريق ضاحي خلفان تميم القائد العام لشرطة دبي ورئيس مجلس إدارة جمعية توعية ورعاية الأحداث، لمحاربة القنوات الفضائية الهابطة، بهدف حماية الشباب والنشء مما تبثه هذه الفضائيات من سموم. ولا نعلم عن النتائج التي أسفرت عنها الحملات التي أطلقها في فترات متتالية، وإن كانت قد أثرت بشكل إيجابي في محتوى بعض القنوات إلى حد ما، لذلك نتمنى أن تستمر هذه الحملات لتشمل القنوات الأخرى أيضا، كقنوات السحر والشعوذة، فضلا عن القنوات التي تتحدث باسم الدين والسياسة وغيرها، والتي تعتبر هدامة بكل ما تحمل الكلمة من معنى. كما نود أن تكون هناك حملات مماثلة من قبل المؤسسات المعنية بالإعلام والثقافة والمجتمع، حتى تكون النتائج أكبر وأسرع وأشمل.

وتأسيساً على ما تقدم، نؤكد أنه يجب علينا كأفراد ومؤسسات، محاربة هذه القنوات بكل الوسائل الممكنة. ومن هذه الوسائل على سبيل المثال: الإعلام المضاد، أي أن نوجد قنوات وبرامج بناءة تستقطب المشاهد، وتكشف ما تقدمه تلك القنوات من سموم برامجية هدامة للمشاهد، فضلا عن فرض القوانين من قبل الجهات العليا، والتي تحدد الضوابط والمعايير التي تنظم هذه العملية، وبالتالي تفرض الرقابة الصارمة على أشباه هذه القنوات.

كما أننا نهيب بقدرة أفراد المجتمع من المواطنين والمقيمين على أرض الدولة، على اختيار القنوات الفضائية التي تتناغم مع قيم المجتمع وتقاليده، حفاظا على تماسك أسرهم ومستقبل الأطفال والنشء، لأن الحصن الحصين أمام المجتمع هو تقوية أبنائه ضد التأثيرات السلبية لتلك القنوات، من خلال تعزيز القيم الدينية والاجتماعية النبيلة.

وما نتمناه على الدول العربية، خصوصا تلك التي تسعى إلى تطوير مجتمعاتها وتقدمها، هو أن تبحث عن أفكار إيجابية وبرامج مفيدة، تساهم في بناء عقل الإنسان العربي وتشكيل شخصيته، عبر البرامج التعليمية والثقافية التي تهتم خصوصا بالطفل العربي، الذي يعاني من إهمال إعلامي كبير

– عن البيان