ياسر حارب

عندما كنت صغيرا، كانت والدتي ترسل إلى إمام المسجد القريب من بيتنا زجاجة ماء ليقرأ فيها الرقية الشرعية، كلما ألمّ بأحد أفراد البيت مرض ما. وأذكر أنني أصبت مرة بحمى لأكثر من شهر، وبعد أن استُنفدت كل العلاجات، اتصلت جدتي، رحمها الله، بإمام مواطن (مطوّع)، اشتهر بقراءة الرقية الشرعية، ولكنه كان من حَيٍّ آخر، وطلبت منه أن يرقيني.

عندما جلستُ بين يديه، قرأ عليّ ثم سألني عن عاداتي اليومية، ونصحني، كأنه جدي، بالصلاة والحفاظ على أذكار اليوم والليلة، وعلّمني قراءة بعض الرقى والآيات.

لم أشعر وأنا معه بأنه رجل غريب، لأنه كان من بني جلدتي، بل إنني اكتشفت أنه كان صديقا لجدي عندما كانوا صغارا. ثم أخذ يحدثني عن الأُسر الإماراتية، وتاريخ بعض مناطق الدولة، وكيف بدأ الاتحاد.. وغير ذلك من قصص محلية لم أسمعها من قبل.

ما زلت، إلى اليوم، أذكر قصص المطوع خليفة، رحمه الله، ونبرة صوته التي تبعث الإيمان، بلهجة محلية صرفة، حملتني إلى عمق نفسي، وغاصت بي في تفاصيل وطني.

لم يكن دور المطوع قديما، وأعني بقديما أي قبل خمس عشرة إلى عشرين سنة، محصوراً على إمامة الناس في الصلاة وإلقاء خطبة الجمعة، بل كانت له أدوار اجتماعية عديدة؛ منها عقد القران أو الإشراف على إجراءات الطلاق، ومنها أيضاً الصلح بين الأزواج أو بين أفراد الأسرة أو أفراد الحي. إلى جانب ذلك، كان المطوع يُفتي الناس في أمور دينهم، ويُحفّظ الأطفال القرآن، ويتدارسه مع سكّان الحي، ولا يفوته أن يُلقي عِظة أو درساً بعد إحدى الصلوات، مرة واحدة على الأقل في الأسبوع.

أذكر إلى وقت قريب، أن إمام مسجدنا كان يقرأ من كُتُبِ الصحاح كل يوم اثنين، وبعد أن ينتهي كان يجلس مع كبار السن وأبناء الحي، لتناول الشاي والقهوة على الكراسي الخشبية الموجودة في باحة المسجد. كنتُ حريصاً على حضور تلك الجلسات، التي كانت بمثابة نشرة أخبار محلية عن «الفريج».

فأعرف من خلالها، وعن طريق المِزاح والضحك، أن فلاناً يعزم على الزواج، وفلانا يخطط للدراسة في الخارج، وابن فلان حصل أخيراً على وظيفة، وغير ذلك من أخبار وأحاديث، كانت تشعرني بأنني جزء من ذلك الكون الصغير (الحيّ) الذي أفتقده اليوم كثيراً.

لم يكن الناس في تلك الأيام مهووسين ببرامج الفُتيا الإذاعية، أو برامج تفسير الأحلام التي تملأ القنوات الفضائية الآن؛ لأنهم لم يكونوا قلقين حيال الدين والحياة، فلقد كان سؤال إمام الحي بعد الصلاة، كافيا لاستيضاح ما غُمَّ عليهم، وكانت عِظاته الحياتية مناسبة تماماً لمسح الأسى من على قلوبهم.

ما كان يعجبني في إمام الحيّ، أنه لم يكن مُنزَّهاً كما هو حال كثير من رِجال الدين الذين أفرط الناس في إجلالهم، إلى حد قد يصل إلى القُدسية. ولم يكن يهتم بالظهور الإعلامي لينافس المُغنين ومُقدمي البرامج، فلقد كان مدركاً أن دوره ينحصر في الدعوة إلى الله، لا الدعوة إلى نفسه باسم الله!

لقد كان إمام الحي غالباً «مواطناً»، ولذلك فلقد كان يفهم خصوصية المجتمع وأعرافه، وعندما يُفتي أحداً من سكان الحي، فإنه يعلم تفاصيل كثيرة عن وضعه الأسري والنفسي ومستواه الفكري، ولذلك كانت فتواه تأتي مناسبة لظروف المُستَفْتي، ولم تكن فتوى «إكسبرس»، تصل عبر الهاتف قبل أن يُكمل السائل سؤاله!

إنني أعتبُ كثيراً على الجهات المختصة في دولة الإمارات إهمالها توطين مهنة الإمامة، فلقد بتنا نفتقر إلى إمام يحدّثنا بلهجتنا المحلية البسيطة، ويستشهد بوقائع وأحداث من تاريخنا المحلي، الذي يقبع اليوم تحت غُبار المكتبات، أو في صدور العجائز.

لقد كانت قصة واحدة من قصص جدتي الراحلة، كفيلة بنشر الإيمان والطمأنينة في صدري لوقت طويل، وكانت حكايات المطوع خليفة؛ الممتزجة بالصبر والألم والإيمان والمِزاح، كافية لتمنحني الرضى بما بين يدي، وتشعرني بالأمان، لأن من يحدثني يتكلم مثلي، وعن جدي وجده، ومن أجل أبنائي وأبنائه.

إن إمام الحي هو واحد مِنّا، لا يحتاج إلى «تأشيرة دخول» إلى قلوبنا، ولا نحتاج إلى لَيّ ألستنا حتى يفهمنا، فهو يملك نفس أوجاعنا، ويحمل نفس الهموم التي نحملها، ويُشاطرنا نفس الأحلام، ويستشهد بقصائد شعرائنا المحليين، ويروي قصص البحر والصحراء. لم أعد أُطالِب بإصلاح خلل التركيبة السكانية في المجتمع

– عن البيان