نورة السويدي

يحدث بعض الإحصائيات المجتمعية عن أخطاء أو تجاوزات أو ظواهر سلبية ما يشبه الصدمة، ويقف المرء أمامها مشدوهاً لا يعرف كيف يفسرها أو من أين يتناولها أو كيف يتعامل معها، ومن هذا القبيل ما تركه رقم صادر عن هيئة أممية تعنى بصحة المجتمع، هي منظمة الصحة العالمية، ومفاده أن نسبة التدخين في الإمارات بين من هم دون 15 عاماً تصل إلى 30%، سواء من يدخنون السجائر أو أي أنواع أخرى من منتجات التبغ، كما أن نسبة التدخين بين الفتيات الأقل من 15 سنة تصل إلى 12%.

أرقام تجعل المرء يراجع في ذهنه الكم الهائل من برامج التوعية التي تملأ أسماعنا وأبصارنا كل يوم، ودعوات الحرص على الشباب والجيل، لنفاجأ في غفلة من حساباتنا أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن الجيل يسير بخطى ثابتة وحثيثة نحو الأمراض والسرطانات، وهذا في أدنى مستويات الضرر الذي يتركه الإيغال في مثل هذه العادات.

والحديث عن أضرار التدخين ومساوئه الأكيدة، لم تعد من مفردات النقاش المجتمعي فضلاً عن الصحي، وذلك أن حقيقة تسببها في الأمراض الرئوية المتدرجة حتى درجات القتل للنفس، أصبحت من البدهيات، ولا يماري فيها إلا مكابر أو جاهل، وإن كان الجهل في هذه الأيام لم يعد مبرراً في ظل الانفجار المعلوماتي في شتى الميادين والمجالات.

وقد كنا نسمع عن كبار اعتادوا التدخين في ظروف معينة ووقعوا في براثنه، حتى لم تعد لديهم ـ كما يزعمون ـ طاقة على محاربته في أنفسهم، إلا أننا نشهد اليوم جيلاًُ يحرق نفسه بالسجائر، في غفلة من الرقابة الأسرية أولاً، والمجتمعية ثانياً.

والشيء الصادم في ذيل الإحصائية السابقة، أن المنافسة على الاحتراق بالتدخين دخلت فيها الفتيات ليبحثن عن المساواة في الضرر الصحي، بدل أن ينافسن ويثبتن أنفسهن في مجالات العلم والدراسة، فنسمع أن 12% من فتياتنا ممن دون الخامسة عشرة مدخنات، ولعل هذا ما يظهر فقط من قمة جبل الجليد!

حقاً تترك مثل هذه الأرقام ألماً على الغيورين على مصلحة المجتمع في الطريق الذي يرسمه شبابنا لمستقبلهم، حين يبدأ مشوارهم بالتدخين قبل الخامسة عشرة، وهم تحت رعاية الأهل في مصروفهم ومنامهم وحياتهم، وتحت رقابة المدرسة في ساعات طويلة على مقاعد الدراسة، فكيف سيكون الحال في الثلاثين أو الأربعين حين يستقلون بشخصياتهم تماماً ويملكون كامل القرار في اختيار مستقبلهم؟ عند ذلك ستنفجر العادات التي تربى عليها الشاب، وستترك مكانها حطاماً متهاوياً.

ولسنا في هذه التداعيات نبالغ في سوداوية المآل، مع يقيننا أن بعض الشباب وإن كانوا وقعوا في براثن هذه العادة حيناً من الدهر، إلا أنهم، بفضل التوعية الحثيثة لهم، استطاعوا الخروج منها والسيطرة عليها، إلا أن الأمر حين يبدأ في سن مبكرة يفتح المجال واسعاً أمام أسوأ احتمالات المستقبل.

والسؤال البدهي البسيط عن المسؤول عن ذلك، يجد أمامه كماً واسعاً من الإجابات، تبدأ من أضيق حلقات العلاقة مع الشباب، وهي الأسرة التي تترك الشاب أو الفتاة يختبران الحياة ويستقيان معارفهما منها عبر أصدقائهما، ولا يدققون في المدخلات الفكرية أو المخرجات التي تعشش في أذهان الأبناء، بحجة مزاعم عن الحضارة والتعامل الراقي والرغبة في تحمل المسؤولية باكراً، ليكتشف الآباء أنهم أضاعوا أطفالهم باكراً..

وتنسحب المسؤولية على المدارس التي أصبح الكثير منها لا يمارس إلا دوره التعليمي الجامد، مع العلم أن الوزارة التي تندرج تحتها مدارس الأطفال، هي وزارة للتربية قبل أن تكون وزارة للتعليم، ودورها التربوي مقدم بلا أدنى شك على دورها التعليمي. ولكن غفلة الإدارات أو رغبتها في تقليل حجم المسؤولية أمام الأسر في التعرض لأبنائها، يجعلها شريكاً في صمتها عن الكثير من التجاوزات السلوكية، التي تبدأ في كثير من الأحيان في المدرسة وتحت أعين المشرفين الذين يغضون البصر رغبة في السلامة.

وتكبر دائرة المسؤولية ليقع فيها الكثير من الأماكن الشبابية، التي تحتوي ألعاباً الكترونية تتيح المجال للتعرف على الأخطاء السلوكية، لنصل إلى مفرزات العولمة التي اقتحمت علينا حياتنا، فاستل منها البعض سلبياتها، وأعرض عن الكثير من إيجابياتها التي لا ننكرها بطبيعة الحال، وهي جزء لا يتجزأ من حياتنا.

هذا الأمر يتطلب من الجميع إعادة النظر وتوحيد الجهود والرؤى، لتنفيذ اللوائح والقوانين لمكافحة التدخين بكل أنواعه، ونشر هذا المفهوم من مرحلة المدارس وهي الأكثر تأثراً بالدعايات، مع الحرص أيضاً على مطالبة الإعلام بأن يقف موقفاً صارماً تجاه الإعلانات التي تمهد الطريق لمثل هذه السلوكيات الخطرة اجتماعياً، ولا يكون هاجسها ربحياً فقط، ما دامت الخسارة في أبناء الجيل أكبر من ذلك بكثير.

ونقطة أخرى لا تقل أهمية عن السابقات، وهي الدراما الخليجية المشتركة في الترويج لمثل هذه السلوكيات، عن قصد أو من غير قصد. فحين يظهر الممثل أو الممثلة وهو يحمل سيجارة، بغض النظر عن الدور الذي يلعبه، يترك انطباعاً ذهنياً لدى الشاب في الرغبة الجامحة في تقليد هذا البطل في تصرفاته، ويقترن بذلك التدخين لأنه يوهم الشاب أو الفتاة أنه من دواعي التميز الاجتماعي ولعب دور البطولة في المجتمع.

الأمر لا يحتمل الصمت ما دام الجيل هو المستهدف بالخطر، وعلى الجميع أن يراجع حساباته ومسؤولياته أمامه. وإذا كان التقرير الأممي يرصد اليوم 30% من أبنائنا في دائرة التدخين، فلا نتفاجأ إن أهملنا ذلك أن تزيد النسبة، أو تظهر نسب أخرى في سلوكيات أخطر يمهد لها التدخين.

– عن البيان