نورة السويدي

انتقادات لاذعة هجومية منزوعة في أغلبها من سياقاتها الزمنية أو المكانية، تطال كثيراً من الثوابت القيمية أو الثقافية، ودعوات لا اجتماعية تقض أمن المجتمع واستقراره أو تتسلل إلى أخص خصائصه، وتوقيعات وتدوينات لا مسؤولة، ولا تظن أنها في يوم الأيام ستقف لتحاسب أو تسأل عن أقوالها أمام ضمير المجتمع أولاً أو الجهات المختصة ثانياً.. كل هذه مظاهر نراها يومياً هنا وهناك في أرجاء الشبكة العنكبوتية، تملأ أعيننا وأسماعنا بتسريباتها التي لا تعرف الحقائق من قريب ولا بعيد، فتظل عائمة فوق الوقائع بأسماء أصحابها المستعارة وأفكارهم المستوردة.

ظاهرة لا ننكرها ولا ننكر خطورتها على المجتمع من عدة زوايا، لعل أبرزها أنها تشي بشيء مقلق إلى حد بعيد لو أننا تأملناه، وهو أن في المجتمع بيننا، حساً أو فكراً، من لا يهمه استقراره ولا اتزانه ولا توازنه، فيشغل باله بتصيد الثغرات والنفخ فيها بأفواه مأجورة، لا تبالي على أي جنب أصبح الوطن ولا في أي نفق دخل، ما دام انحرف عن توازنه وتماسكه.

هؤلاء الأبواق غير المسيطر عليها لا من ذاتها ولا من غيرها، ستظل تطل برؤوسها كلما سنحت لها سانحة لمز أو غمز من قناة المجتمع، لتضع مشكلاته الطبيعية المعروفة تحت مجهر التضخيم الإعلامي، والتحذيرات والإسقاطات والمهاترات التي تجعل منها قضية شائكة.

والوجه الآخر الذي تشي به مثل هذه المشاركات الفكرية المجتمعية المتسترة بأسماء مستعارة، هو أنها ربما كانت من غيورين حسني النوايا على مجتمعهم لا ترضيهم الأخطاء، فيلجأون إلى النقد بأسماء مستعارة مخفية، خوفاً أو حرجاً من أن يعرفوا في مجتمعهم.. ومصدر خطورة هذا التصرف، أنه ينطلق من مسلمة لديهم خاطئة بلا شك، وهي أن المجتمع لا يسمح لهم بأن يقولوا رأيهم بحرية، وهذه من التحاملات المجحفة بإرث راسخ ننعم به في مجتمعنا، يعطي الجميع حرية قول الحق الذي يرونه، عبر قنواته المسؤولة تحت مظلة من القانون كفلت حرية الرأي والتعبير لجميع أبناء الوطن، ما دام القصد هو التصحيح والبناء، لا أن يكون مجرد وضع العصي في العجلات وإثارة غبار المشكلات، من دون البحث الحقيقي عن حلول لها.

والوجه الثالث الذي يمكن قراءة هذا السلوك الاجتماعي من خلاله، إنما يتعلق بالمثقف ذاته، الذي أصبح يرتضي لنفسه أن يعيش في قوقعة الغربة الحسية والمعنوية عن مجتمعه، فإذا كان في السابق يجتهد في ترك إرث فكري للأجيال التي ربما تذكره بعد حين بما وجدت عنده من أفكار إصلاحية، ارتضى لنفسه أن يكون نكرة اجتماعية اليوم وغداً، فما هي إلا أسماء مستعارة لا يعرف صاحبها حياً كان أو ميتاً..

وإعادة النظر في جميع هذه الزوايا التي تناولنا فيها هذه الظاهرة الشبكية العنكبوتية الواهنة، ليس لها طريق للوقوف في وجه هذه الظاهرة إلا عبر شحذ الوعي الدائم في المجتمع، لأن الوعي هو السبيل الوحيد لأن يقف المجتمع سداً منيعاً في وجه المخترقين لأمنه واستقراره عبر تهويمات فكرية لا تتصل بالواقع ولا تمس حياة الناس ولا تؤثر فيها، إلا أنها تغدو عند هؤلاء “الغيورين” هاجساً اجتماعياً لا بد من الحديث فيه وتصديع رؤوس الناس به، لأن عليه مصير حاضرهم ومستقبلهم، وكأن الناس في عامتهم مستجهلون مستغفلون وهؤلاء هم المبصرون الوحيدون في قطيع من الخراف العمياء.

وهذا الوعي أيضاً هو الكفيل، بلا أدنى شك، بأن يقذف في قلوب المترددين الخائفين، الثقة بمجتمعهم وقياداتهم الحريصة على ضمان حرياتهم، وأنهم مواطنون محترمو الحقوق، وعلى رأسها حرية الفكر والتعبير والرأي ما دامت النوايا صادقة في إصلاح ما طرأ عليه الفساد أو تطوير ما يحتاج إلى التطوير، في منظومة اجتماعية متكاتفة تضع مصلحة المجتمع نصب أعينها، ولا ترضى بأن تكون سلبية في ما يخص قضاياها الاجتماعية.

وكذلك يفعل الوعي فعله السحري في المثقف اليائس من نفسه ومجتمعه، ليعيد إليه ثقته الحقيقية التي سرقها هو من ذاته، وعزا سرقتها إلى الظروف أو المجتمع، وليعلم أن أمانة المعرفة والثقافة والعلم التي يحملها في نفسه، تحتم عليه أن يصدع بها بما يخدم قضايا الناس ويبقي على تماسكهم ووحدتهم وتطورهم ونهضتهم، في طريق من نور المعرفة التي يحمل القناديل فيها المثقفون والمتنورون والمصلحون.

ونحن من هذا المنبر، نقرر ما نثق بصدقه وإطلاق حقيقته في مجتمعنا، وهو من أعظم النعم علينا، أننا نعيش في دولة تحترم الإنسان كإنسان، حيث جعلت الإنسان منطلق نهضتها، وغاية هذه النهضة والحضارة هو أيضاً الإنسان، ولذلك ضمنت له كل ما يكفل ممارسة إنسانيته، في مظلة من الأمن والأمان والاستقرار والحماية الأدبية، ولا أدل على ذلك من القوانين الصارمة التي تمنع إيقاف أحد بسبب رأيه أو ممارسته لحرية التعبير.

– عن البيان