د. فاطمة الصايغ

قضية الهدر في الموارد المالية والبشرية ربما هي قضية نعاني منها في الإمارات على مستوى الهيئات الكبرى أو على المستوى الشخصي.

وهي ظاهرة منتشرة في جميع الإمارات على حد سواء. وفي اعتقادنا أن هيئات الإشراف والمساءلة العامة والمكاشفة لم تنجح حتى الآن في وقف ذلك الهدر كلياً على الرغم من أن الهدر في المال العام هو شكل من أشكال الفساد ولكنه الفساد المسكوت عنه.

والهدر هو من نتاج الإدارة السيئة والقرارات المتسرعة وربما الخاطئة. والهدر هنا قد لا يتعلق بتبذير أموال خصصت للإنفاق على مشاريع عامة أو خدمية ولا في وضعها أو رصدها لمشاريع ليست ذات جدوى أو بالأحرى خاسرة أو غير ضرورية ولكن في الكثير من الأحيان عبر اتخاذ قرارات عامة تؤدي في نهاية الأمر إلى تبذير كبير غير ضروري يؤدي إلى هدر عام في مواردنا المالية.

الهدر يظهر في أشكال تعد صغيرة وبسيطة جداً للفرد تماماً كما يظهر من خلال قضايا يراها كبيرة ومهمة ومتعلقة بحياته اليومية. كنت أتساءل عن ضرورة وضع ذلك المطب الأسفلتي الكبير في وسط ذلك الشارع العام الرئيس في إحدى الإمارات وهو الذي لم يحد من الحوادث بل على العكس أدى إلى عرقلة المرور بشكل كبير.

وفي غضون أقل من شهرين من وضعه تمت إزالته بالكامل مخلفاً جرحاً غائراً في ذلك الشارع وتبذيراً كبيراً في المال العام. مثال آخر على الهدر إقامة ذلك النصب الضخم في وسط ذلك الدوار الرئيس الذي يقبع بين أربعة شوارع كبيرة والذي لم يعط المنطقة أي قيمة جمالية كونه وضع في مكان لا يليق به، فأدى إلى حجب رؤية العابر لتلك الشوارع، وفي خلال أسابيع قليلة من الانتهاء من العمل به تمت إزالته بالكامل بعد أن تبين للمسؤولين، على ما يبدو، خطأ تشييده في هذا المكان.

الهدر لا يتمثل فقط في إقامة صروح ومطبات في غير مكانها ولا في تبذير المال العام على مشاريع غير ضرورية ولكن في الكثير من الأحيان عبر التسرع في اتخاذ قرارات بطريقة غير مدروسة تؤدي في المدى الطويل إلى هدر كبير في الموارد العامة دون أي تفكير في أن تلك الموارد هي مواردنا جميعاً كما هي موارد الأجيال القادمة.

كما أن عدم وجود حس المسؤولية العامة على المستوى الفردي وحس المحاسبة لمن تسبب في اتخاذ تلك القرارات يؤدي إلى المزيد من الهدر. فالهدر في الموارد العامة يتسبب في ضياع موارد مادية ثمينة يمكنها أن تلعب دوراً مهماً في تنمية مستقبلنا ومستقبل الأجيال القادمة تماماً كما يتسبب في ضياع جهد بشري كبير نحن في حاجة إليه. فعدم وجود التفكير المستقبلي وغياب حقيقة مهمة وهي أن كل قرار يترتب عليه تبعات مالية ومجتمعية يؤدي في النهاية إلى تبذير ثروة ضخمة هي ليست ثروتنا فقط بل ثروة الأجيال القادمة أيضاً.

المال العام أمانة وضعها صناع القرار في يد كل مسؤول لكي يصرفها في أوجهها المستحقة وفي مشاربها الصحيحة. ولكن في غياب التخطيط الجيد والتنسيق المناسب ودراسات الجدوى النافعة يتحمل المجتمع بأسره تبعات قرارات غير مدروسة أو متسرعة. كما أن التلاعب في المال العام سواء عبر اتخاذ قرارات خاطئة أو من خلال الإهمال في وضع ذلك المال لأغراضه النافعة للمجتمع يؤدي في النهاية لهدر كبير يتحمل المجتمع بأسره تبعاته.

الأمم المتطورة تقاس بعدة معايير يقف على رأسها وعي المسؤول والمواطن معاً لمعنى المسؤولية العامة وحرص الجميع على صيانة المنشآت العامة والمال العام باعتباره ثروة قومية ينتفع منها الجميع. كما تقاس الأمم المتطورة بمدى حرص والتزام كل فرد بالحفاظ على المال العام وعدم التهاون في حمايته واعتباره ثروة عامة. لهذا تعد تلك الأمم متقدمة ومتطورة وناجحة.

فالثروة التي بين أيدينا الآن هي ثروة قومية يشترك الجميع في اقتسامها كما تشترك معنا الأجيال القادمة في ملكيتها، ومن الخطأ اعتبارها ثروة باقية مدى الحياة. فكافة الثروات هي ثروات ناضبة ما لم نحمها وننمها ونحافظ عليها لمستقبلنا ومستقبل أجيالنا. لهذا تعتبر التوعية المجتمعية بصيانة المال العام وحمايته مسؤولية مشتركة بين الدولة والفرد.

الهدر في المال العام هو عدو الإدارة الناجحة ودليل قوي على غياب روح المسؤولية والوعي المجتمعي الجيد، وهو أيضا دليل قوي على وجود فساد وتلاعب في توظيف المال العام لخدمة أغراض الدولة وأهدافها التنموية. وبالتأكيد يقف وراءه أفراد مستفيدون من ذلك الهدر كما تقف وراءه في بعض الأحيان هيئات مسؤولة تعمل على استمرارية ذلك الهدر وتحويله إلى مصادر ثراء لها.

الهدر في الموارد العامة سوف يستمر ما لم نضع آلية جيدة لوقفه وتجفيف مصادره. فالتوعية المجتمعية وحدها لن تكفي لوقف ذلك الهدر في المال العام بل نحتاج إلى تفعيل قوي لأجهزة الرقابة الحكومية وأجهزة الإشراف المباشر وإلى تخطيط جيد للمستقبل وخاصة تلك المتعلقة باتخاذ القرارات المهمة بالنسبة للمشاريع الخدمية. فاتخاذ القرارات المتسرعة وخاصة تلك المتعلقة بالمشاريع الكبرى هو في الواقع ما يعرضنا لفقدان موارد مالية ضخمة إن اتخذت دون دراسات جدوى متعمقة.

المال العام هو أمانة يؤتمن عليها كل مسؤول ومواطن ومن الذنوب الكبيرة تبذير تلك الثروة أو تعريضها للهدر تحت ذرائع واهية مثل الاختيار الخاطئ للمسؤول عن الإنفاق العام أو التخطيط السيئ أو أحياناً إعفاء المسؤول من المساءلة والعقاب متى ما ثبتت إدانته. فالهدر هو شكل من أشكال الفساد ويجب معاملة المسؤول عن ذلك الهدر كمعاملة المختلس والمرتشي والسارق. فتشديد العقوبة على المتسبب في الهدر هو قضية مهمة حتى نمنع أي إساءة للمال العام.

– عن البيان