د. فاطمة الصايغ
المص لا شك في أن المتغيرات التي خضع لها مجتمع الإمارات في العقود الأخيرة ستكون عاملاً حاسماً ومؤثراً في تشكيل مجتمعنا في العقود القادمة، فالحاضر هو الأب الشرعي للمستقبل، وبالتالي فإن ما نراه اليوم محتملاً سوف يكون غداً حقيقة.
خضعت الإمارات لمتغيرات كثيرة أبرزها المتغيرات الاجتماعية التي ساهمت في إحداث نقلة كبيرة في نظرة الفرد إلى نفسه وإلى محيطه القريب وانتهاء بطريقة تفاعله مع محيطه الاجتماعي الواسع. تلك المتغيرات ساهمت فيها التطورات الاقتصادية والطفرة المادية والمتغيرات الحضرية التي غيرت وبدلت من أنماط المعيشة وجعلت من الأسر تتباعد وتصغر إلى أن أصبحت أسراً نووية منعزلة بعد أن كانت ممتدة ومترابطة.
واختفى من بعضها الأواصر القديمة التي تجمعها وتربطها كل ذلك تحت غطاء التمدن والحداثة، فلم يعد الأبناء يحافظون على العلائق الاجتماعية التي تربطهم بأسرهم الكبيرة الممتدة بل لم يعودوا يعرفون أبناء أسرهم ذاتها إلا من خلال وسائل الاتصال الحديثة، ولم يعد مكان المرأة المنزل فقط بل خرجت لتخلق بخروجها ذاك فراغاً آخر في المنزل ملأته الخادمة الأجنبية.
ولم يعد الأبناء يتلقون تربيتهم الأساسية في المنزل بل أصبح هنالك عدة جهات تشترك مع المنزل في التربية والتنشئة. فبالإضافة إلى المدرسة والنادي والتلفزيون هناك الإنترنت الذي أصبح له دور كبير في حياتنا الاجتماعية. جميع هذه الوسائل تأخذ دوراً في تعميق قيم معينة في نفسية الطفل إلى أن يصبح راشداً ويخرج إلى سوق العمل.
هذه المتغيرات جميعها رمت بظلالها على الفرد وعلى الأسرة التي أصبحت خاضعة للعديد من المؤثرات الصعبة التي لا شك سوف تؤثر على تركيبتها البنائية وحتى دورها الطبيعي الذي شرعه الخالق ألا وهو التكاثر وتعمير الأرض.
فتضاعف العبء على رب الأسرة، ليس فقط العبء المادي الذي أصبح يرهق معظم الأسر بل تلك الهواجس المشروعة التي تختص بمسؤوليات كل فرد داخل الأسرة وواجباته المجتمعية، هواجس ترمي بظلالها على أمن الأسرة واستقرارها.
فكثير من أرباب الأسر أصبحوا يعملون بعيداً عن منازلهم بل وخارج نطاق إماراتهم ويرجعون لها في نهاية الأسبوع، ونتيجة لذلك تقلصت ليس فقط حصة التواصل الاجتماعي بل تقلص أيضاً دور رب الأسرة في التربية والتوجيه. كما تقلصت فرصة لقاء الوالدين واجتماعهما مع الأبناء في جلسات عائلية حميمية كما كانت الأسر تعمل في الماضي، تماماً كما تقلص دور الأبوين في التنشئة.
لم يكن هذا هو المتغير السلبي الوحيد الذي أصاب الأسرة، فعلى غرار كل شيء في الحياة لم تكن الخلية الأولى للمجتمع بمنأى عن المتغيرات السلبية الأخرى التي أصابت حياتنا.
لقد أثرت تلك المتغيرات في الدور الطبيعي للأسرة من الجذور. فلقد تحول بعض أرباب الأسر إلى آلة نقود أو مصرف يقدم للطفل احتياجاته المادية فقط بينما تخلوا عن دورهم الأول في التربية والتوجيه.
فأصبح الأب منشغلاً عن أبنائه بعمله، والأم كذلك، إن لم يكن بعملها فبترف الحياة من حولها التي تنوعت أصنافها وجعلت الفرد ينسى أحياناً فلذة كبده بل ويلفظها في بعض الأحيان.
هذه المتغيرات على الرغم من أنها أفرزت ترفاً ورفاهاً إلا أنها أفرزت أيضاً خواء روحياً ونزعة مادية بحتة جعلت من الإنسان يبحث على الدوام عن ملاذ آمن.
كما أفرزت تساؤلات وهواجس مشروعة عن الشكل الجديد لمجتمعنا في المستقبل، تلك التساؤلات والهواجس تجعل الفرد يقف أحياناً ليتساءل عن ماهية الضريبة التي عليه أن يدفعها لكي يحافظ على استقراره النفسي وبالتالي الحفاظ على مجتمعنا سليماً معافى. تساؤلات تدور حول العلائق الاجتماعية المستقبلية وعلاقة الفرد بالدولة.
تساؤلات مشروعة في ظل هذا السيل الجارف من المتغيرات التي قلبت الموازين رأساً على عقب.
لا شك في أن الأسرة من أكثر المؤسسات المجتمعية تأثراً بالمتغيرات المادية والحضرية ولا شك أيضاً في أن دورها المستقبلي سوف يتأثر كثيراً ويتبدل طبقاً لسرعة إيقاعات الحياة من حولنا.
الدراسات الأخيرة كشفت لنا أن معدل الخصوبة وبالتالي الإنجاب في الإمارات تدنى إلى ما دون 3% للأسرة، وأعباء الحياة سوف تزيد سنوياً ما نسبته 10%.
الدراسات أثبتت لنا أن التقنيات الحديثة ووسائل الاتصال التي باتت تشكل جزءاً مهماً في حياتنا وسوف يتعاظم دورها مستقبلاً، ليست دوماً بالنعمة فأحياناً تكون نقمة إذا لم نحسن توظيفها. ويتضح هذا في تعامل الجيل الجديد مع التقنيات.
كل هذا يعطينا دلالات واضحة على مدى التغير الذي يجب أن نتوقعه.
فالأسر سوف تتقلص عدداً. وكما تقلص عدد الأبناء في كل أسرة سوف يتقلص أيضاً دور الأسرة في التنشئة والتربية مع ازدياد عدد ساعات العمل، وزيادة المسافات التي على الأبوين قطعها بين البيت ومكان العمل، وزيادة عدد المركبات في الشوارع وبالتالي زيادة زحام الطرقات.
في مقابل تلك الزيادات سوف تعيش الأسرة في مجتمع يعاني الكثير من الانحسار: انحسار في مستوى الخدمات الطبية وانحسار في التعليم، وانحسار في الخدمات العامة وانحسارات أخرى غير متوقعة.
تلك الانحسارات لا شك في أنها سوف تؤثر على الفرد وعلى الأسرة وعلى علاقة الفرد بالدولة. فالفرد يحس بدور الدولة كلما زادت استفادته المادية كما تتأثر علاقته بها بتقلص الخدمات. هذه العلاقة الطردية في حالة تخلخلها لا شك سوف تؤثر على ولاء الفرد للدولة وتخلق منه مواطناً غير منتم.
إننا بحاجة للمزيد من الدراسات العلمية المتعمقة وليست السطحية حتى نتدارك كل خلل قد يصيب مجتمعنا. فعلاج الخلل الاجتماعي أصعب من علاج الخلل الاقتصادي الذي يمكن علاجه عن طريق القوانين والتشريعات الآنية.
أما علاج الخلل الاجتماعي فيحتاج إلى وقت طويل ودراسة جذرية متأنية الأمر الذي يستغرق وقتاً وجهداً أطول، فلماذا الانتظار إلى أن تصبح الحاجة ماسة؟
– عن البيان