الفجيرة نيوز- ننشر تاليا المقال النقدي الذي خصنا به الشاعر ووزير الثقافة الأردني السابق جريس سماوي عن العرض البريطاني ” كبير المحققين ” والذي تابعه وأدار ندوته التقيمية :
أتاح لنا عرض ” كبير المحققين ” للمخرج العالمي الكبير بيتر بروك التوقف عند جملة ملاحظات تتعلق بالمسرح في مكانيه المتقابلين : الخشبة والصالة ، وفي عنصريه المتواجهين : الممثل والجمهور. فالعمل المأخوذ عن رائعة دوستويوفسكي “الأخوة كرامازوف” على يد الكاتبة والسينارست ماري هيلين ايستيان وتمثيل الممثل البارع بروس مايرز أثار جدلا كبيرا لدى رواد العرض في مهرجان الفجيرة للمونودراما لهذا العام ، حيث تشرفت بأدارة الندوة الحوارية التي غاب عنها الممثل بعد انتهاء العرض مباشرة.
أما الملاحظات التي قصدت الحديث عنها فتتلخص بما يلي :
أولا – السلوك المسرحي.
لنعترف باننا في العالم العربي لا نتعامل مع الطقس المسرحي بالطريقة نفسها التي يتعامل بها الجمهور في الغرب. وأن هناك أنزياحا نحو ” الفرجوية ” في سلوكنا داخل صالة العرض . فقد أعتاد المتلقي على التفاعل مع المؤدي سواء كان هذا المؤدي ممثلا او موسيقيا او شاعرا والتداخل معه والتعليق حتى بصرخات الأستحسان.
غير أن ما حدث في عرض ” كبير المحققين ” من جلبة في الصالة ودخول وخروج الجمهور لا يدخل في باب تلك الحالة “الفرجوية” الحاضرة في تراثنا العربي منذ وقوف الشاعر الجاهلي في أسوق عكاظ والمربد وانتهاءا بالسيرة الهلالية ومسرح خيال الظل واعمال أبي خليل القباني والشيخ سلامه حجازي وغيرها.
لقد نشأ المسرح “كما هو معلوم” في الغرب في حضن المعبد وكان جزءا من طقس ديني تعبدي وما يزال يقوم على بوح الممثل على الخشبة بوحا نفسيا يشبه الصلاة يستنزف طاقته وأعصابه وحواسه ويضعه فردا في مواجهة الجمع الذي يتحد اتحادا روحيا ويتواصل جماعيا وفرديا كل بحسب حاجته وتجربته النفسية والشعورية ووعيه وثقافته في حالة استبطان داخلي جمعي وفردي في آن ، واصغاء كامل يصل حد الأندماج والقداسة والتصوف. لذا فأن قطع هذا التواصل الفريد بين طرفي المعادلة الأبداعية المتكونة من الملقي والمتلقي انما يخرق الشرط الأبداعي الأول والأساس ويحدث شرخا في الجدار النفسي لذلك الذي يقف على الخشبة عاري الروح أعزلها أمام الحشد وانفاسه وطاقته واتحاده الجمعي . فلا غرو أذن من أن ينهار الممثل في بعض الحالات ويتلعثم ويرتبك ويسرع في أنهاء الدور.
غير أنني اسجل للمثل الكبير بروس مايرز تماسكه وتركيزه وتواصله مع النص رغم صعوبة وصول اللغة والتي كانت الوسيط الرئيس في العرض الذي انتمى الى تقنيات بيتر بروك البسيطة والتي عبر عنها احد النقاد في صحيفة الغارديانز البريطانية بأنها ” الفخامة الفقيرة ” (( austère grandeur
ثانيا :- رمزية العرض
أن عرض عمل من مثل “كبير المحققين” في مهرجان الفجيرة لهذا العام له رمزية مهمة حيث يمر العالم العربي بتغيرات سياسية كبيرة بما يسمى ” الربيع العربي “. فليس عبثا أن يختار المخرج الكبير بيتر بروك عرضا كهذا لمهرجان في دولة عربية حيث نشهد صعودا الى السلطة للقوى الدينية. فالعرض يقوم على معالجة مفهوم التطرف أذ أن كبير المحققين في محاكم التفتيش في اسبانيا ، وبالتحديد في اشبيلية ، يقوم بأعتقال المسيح الذي يظهر فجأة هناك ويحقق معه ويثير في وجهه التهم سائلا أياه : لماذا اتيت لتزعجنا ؟
لقد تم التعبير عن هذه الفكرة كثيرا في الأعمال الأدبية والفنية والمسرحية والسينمائية والإبداعية الغربية عموما. ومن قرأ الرواية العظيمة “المسيح يصلب من جديد ” لليوناني كازانتزاكس، يدرك كم عانى العالم من العنف باسم الدين، وقد تكرر ذلك في أعمال اخرى مثل ” يسوع المسيح سوبر ستار” و ” الإغواء الأخير للمسيح” وشيفرة دافنشي ” وغيرها.
وكأن بروك في اختياره هذا العمل لجمهور الفجيرة يقول ” ستجدون دائما من يستخدم الدين ذريعة للعنف” .
ثالثا: – تقنيات العرض
لم يكن هذا العرض حينما قدم لأول مرة باللغة الفرنسية ثم فيما بعد بالانجليزية في الأساس مونودراما فقد اداه الممثل البارع بروس مايرز مع ممثل آخر تغير باختلاف المسرح والبلد. فمنذ عام 2004 طاف هذا العرض كثيرا من البلدان وعرض بعد باريس في مسرح أوف برودواي في نيويورك،وفي دبلن في ايرلندا، وبريطانيا، وعدد من المدن الأميركية والبريطانية والأوروبية. وحين عرض في بيروت أداه بروس مايرز برفقة العربي شفيق قليلات الذي لعب دور المسيح أصما أبكما يتلقى الاتهامات من مايرز الذي استخدم صوته ببراعة وتماوج وأداء عال، لم نجده في عرض الفجيرة . وجاء هذا العمل ضمن ثلاثية اجترحها المبدع بيتر بروك بعد احداث 11 سيبتمبر .
رابعا : – ممثل بارز
يسجل التاريخ المسرحي والتلفزيوني للممثل بروس مايرز أعمالا في غاية البراعة والإتقان هي في معظمها من اخراج العملاق بيتر بروك منها ” الحب خطيئتي” وهي مستوحاة من سوناتات شكسبير، و”المهابهاراتا” الملحمة الهندية الشهيرة، والتي استغرق اداؤها على المسرح نحو تسع ساعات أداها الممثل مايرز. إضافة إلى اعمال أخرى مثل ” مقابلات مع رجال معروفين ” و” مسرح ثلاثون دقيقة” وغيرها.
في عروضه العديدة في مختلف المدن العالمية تراوح أدء الممثل بروس مايرز بين أداء عال احتفى به النقاد وعروض اقل براعة لم يكن هو راض عنها فقد قالت الديلي تلغراف البريطانية عن أحد عروضه بانها ” أمسية أيحائية ” ووصفت الغارديانز البريطانية ايضا العرض بأنه ينتسب الى فكرة ” الفخامة البسيطة أو الفقيرة”
وعبرت النيويورك تايمز مرة أخرى بأن بروك في هذا العرض جعلنا ” نفكر ونحس “.
وفي الختام فقد يكون الممثل مايرز في هذاالذي قدمه لجمهور مهرجان المونودراما في الفجيرة قد خالف التوقعات التي انتظرها الجمهور من الفنانين والنقاد. غير أن الفكرة الأهم تبقى في أن هذا المهرجان المتميز والذي بدأ يضع اسمه على خريطة العالم في الدراما قد أتاح لنا فرصة الأطلاع على نماذج عالمية ومغايرة للرؤى السائدة لدينا عن المسرح ومنح مساحة للمسرحيين والكتاب العرب للجدل ورفع الأسئلة .
* جريس سماوي شاعر وكاتب وإعلامي ووزير الثقافة السابق في الأردن.