د خالد الخاجة
هذا الضجيج الشديد في المشهد الإعلامي العربي، وحالة انعدام اليقين التي يعيشها المتابع، واختلاط الحابل بالنابل، تتطلب التوقف للتأمل وترشيد التجربة الإعلامية العربية؛ لكي نعيد العربة إلى مسارها الصحيح، بعيداً عن المفاهيم البراقة في ظاهرها، ولكن المحك الرئيسي يكون عند التطبيق على أرض الواقع.
المشكلة في إعلامنا العربي، أننا ما زلنا أسرى للنموذج الغربي في الإعلام، بل إن كثيراً من الصحافيين في عالمنا عندما يتلقون تدريبهم على الفنون الصحافية الجديدة، يتلقونه في المعاهد الأوروبية، أو في الغالب على أيدي خبراء أجانب، ولا بأس في ذلك، ولكن الإشكالية هي ذلك التخاذل أو العجز الذي يصيب البعض، ويجعله مكتوف الأيدي أمام الإسهام بصيغة جديدة تناسب واقعنا العربي.
أعلم تماماً أن علو الصوت والمناداة بحرية الإعلام لهما وجاهتهما، وأن من يبدو في نبرة صوته غير ذلك، هو لا شك متهم بالرغبة في تكميم الأفواه أو الالتفاف على مكتسبات أصبحت واقعاً على الأرض، وليس هناك عاقل مع كبت الإعلام أو الوقوف أمام حريته، ولكن عن أي إعلام نتحدث أو أية حرية نقصد؟ وما طبيعة تلك الحرية ومصدرها ومداها؟ وهل نحن نحتاج بشكل مستمر إلى من يصوغ لنا مفاهيم بعينها محدداً عناصرها لنبدأ بتطبيقها؟ وهل هناك صيغة حول حرية الإعلام تصلح للتطبيق في كل زمان وأي مكان، وتتوافق مع كل المجتمعات؟ ثم هل نحن عاجزون عن صياغة رؤية إعلامية تتناسب مع واقع حال بلادنا، دون استجلاب نمط فكري معين لنكيف عقولنا مع محدداته؟
من الممكن أن يكون هذا مقبولاً في بداية عهد أمتنا بوسائل الإعلام والتنظير العلمي لها، أما أن يستمر ذلك إلى أبد الآبدين أو إلى ما لا نهاية، فذلك ما لا يمكن قبوله بعد أن بلغت رؤيتنا الإعلامية سن الرشد، عبر الممارسة العملية للوسائل بمختلف أشكالها، أو عبر كليات ومعاهد الإعلام التي تخطت نصف قرن في عالمنا العربي.
وهنا أود أن أطرح سؤالا في القضية الجدلية الخاصة بجدوى أن يكون للدولة دور فاعل في المشهد الإعلامي عبر وسائلها المختلفة، أو رفع هذه الأيدي نهائيا، وترك المجال للإعلام الخاص، كما هو النموذج في العديد من دول العالم؟ وإذا كان النموذج البريطاني قد جعل للإعلام هيئة مستقلة تديره، إلا أن الدولة تشرف بشكل مباشر وتملك أن توقف أي مضمون يتعارض مع ما حددته.
بعد هذا الارتباك في شارع الإعلام، أتساءل: هل ترك الإعلام في عالمنا العربي للأفراد دون تدخل الدولة نهائيا، يعتبر من الأشكال التي تناسبنا؟ الحق أن ذلك عندي يتوقف على الغاية والوظائف المنوطة بوسائل الإعلام؛ لأن الأدوار تختلف من مجتمع لآخر، كما أن طبيعة الدور الذي تقوم به الوسيلة يختلف من مجتمع إلى آخر، وهذا واقع؛ فالأدوار التنموية التي تقوم بها وسائل الإعلام العربي، وعملية التنشئة الاجتماعية، والحفاظ على المنظومة القيمية للمجتمع، ونقل التراث من جيل إلى آخر، ومحو الأمية، والتغلب على معوقات التنمية، وعملية التعليم، سواء بشكله الرسمي أو غير الرسمي، والإرشاد والتوجيه، كلها مهام مطلوبة من وسائل الإعلام في عالمنا العربي، تختلف عن أدوار الإعلام الغربي؛ لأن إعلامنا العربي أداة من أدوات الدولة في البناء والتنمية.
وعندي أن غياب المؤسسات الرسمية عن الإعلام في العالم العربي وتركه للأفراد فقط كمشروع تجاري، أخطاؤه أكثر من حسناته. وهنا أنا لا أدعو إلى تكبيل الإعلام وتقييده، ولكن كما أن للأفراد أو المؤسسات وسائل إعلام، فكذلك من الأهمية وجود إعلام الدولة لتحقيق أهداف يعجز عنها إعلام المؤسسات والأفراد. وهنا بيت القصيد في شتى الفنون الإعلامية؛ فعندما كانت الدولة تقف وراء صناعة السينما، وجدنا كيف أنها قدمت للمشاهد العربي أعمالا تاريخية ذات إنتاج ضخم يعجز عنه الأفراد، كما أن نوعية الأعمال نفسها لها أهداف قد لا تنظر إلى الإيراد بالدرجة الأولى، بقدر ما تهدف إلى حفر قيمة في ذاكرة الأفراد، كما أنه دفع بالوجوه الجديدة التي أصبحت فيما بعد نجوماً ذاع صيتهم، وهو ما يخشى المشروع الخاص المغامرة به.
الشاهد أن عدم تخلي الدول في عالمنا العربي عن دورها أمر ضروري، كما أن وجود المشروع الخاص إعلامياً أمر مهم كذلك، والتنافس في ما بينهما يصب في مصلحة القارئ والمشاهد وتطور أداء الوسائل ذاتها وتنافسها في ما بينها، وهذا يتطلب الوصول إلى صيغة للأدوار التي يجب أن يقوم بها الإعلام. وهنا أضع مجموعة من المحددات للممارسة الإعلامية التي يمكن إدارة النقاش حولها، للوصول إلى مفهوم جديد لحرية الإعلام في عالمنا العربي.
أولا: أن يخرج الإعلام العربي من عباءة تقليد الإعلام الغربي، وأن يحدد بدقة أين هو؟ وماذا يريد؟ وأن يكون هناك إطار نظري ورؤية أكاديمية تحدد خطوطا واضحة، نابعة من ظروفنا وبيئتنا واحتياجاتنا، دون السير في طريق يقوده لنا غيرنا ولا نستطيع تحديد بوصلته بوعي وإرادة، وهذه أولى محددات الحرية بمعناها الحقيقي.
ثانياً: من الأهمية بمكان وضع نسق وظيفي ومهام محددة للأدوار التي يجب أن تضطلع بها وسائل الإعلام العربي، ليس من بينها ـ بالتأكيد ـ الإغراق في الترفيه والتسلية، لكن التوازن بين الإعلام والتعليم والترفيه والتوجيه، وتعظيم الوظيفة التنموية بكافة أشكالها؛ فحتى في التسلية يمكن أن نسلي ونزرع قيمة، ونسلي ونبث معلومة.
ثالثاً: تناول القضايا التي تهم المواطن العربي بشكل أساسي، بحرية وعمق في إطار مناقشة مجتمعية مفتوحة، تشمل كافة ألوان الطيف السياسي، على أرضية وطنية ومن منطلق مصلحة الوطن، بعيدا عن الاستقواء بالآخر واللعب على أوتار الطائفية أو المذهبيــة، ومن منطلق الشراكة في الوطن لا المغالبة.
رابعاً: حماية حق الأفراد في الخصوصية، ولا تكون الحرية هي التكئة للإساءة إلى سمعة الغير والتدخل في حياتهم الخاصة، وأن يتم ذلك من خلال مواثيق شرف إعلامي يلتزم بها العاملون في المجال الإعلامي، بوضوح وشفافية.
خامساً: أن تكون مصلحة الوطن فوق كل مصلحة، والموجه والحاكم لسياسة الوسيلة الإعلامية قبل أي سياسة، وهذا ليس بدعاً من القول، لكنه حال أكثر البلاد ادعاء لحرية الإعلام، ولكن عند مواجهة الأزمات تجد التفافاً إعلاميًّا حول الأهداف الكبرى للوطن، فكثير من النقد القائم في الغرب يصوب نحو الأداء والممارسة، لا إلى صلب النظام أو الدولة أو أمنها القومي.
وأخيراً، أؤكد أن مصطلح الحرية هو مصطلح نسبي في الأساس، فما يعد حرية في بيئة لا يعد كذلك في مكان آخر؛ تبعاً لمنظومة القيم السائدة، وبالتالي فليست هناك وصفة جامعة مانعة لمفهوم الحرية يمكن أن تنطبق على كافة المجتمعات، كما أن الحرية في حقيقتها مسؤولية، وهذه المسؤولية تتطلب منا دائماً البحث عن صيغ جديدة لممارسات تنبع من ظروف أمتنا، ممارسات تسع الجميع، ولا تعرف الإقصاء، ولكن تظل دائمة، وسلامة الوطن ولحمته هما الغاية والمبتغى.
– عن البيان