خالد الظنحاني
يعجبني النمل في دقة نظامه العملي وحُسن تدبيره الأزلي لأمور حياته، فهو مخلوق اجتماعي بامتياز، يشغل كل عضو فيه وظيفة محددة يقوم من خلالها بأداء واجباته دون كلل أو ملل.
وقد توقفت كثيرا عند مشهد تصويري على موقع “اليوتيوب”، يظهر فيه النمل وهو يعبر نهر الأمازون، مشكلا بتماسك أجساد بعضه بعضا “قاربا نملياً”، ليتمكن بفاعلية من عبور النهر ومقارعة أمواجه التي تحدثها القوارب الخشبية العابرة للنهر.. وبالتالي يصل بنجاح إلى الضفة الأخرى، وهو ما حصل بالفعل.
إن هذا المشهد الأثير للنمل، وتلك الروح التلاحمية والتعاونية والتآزرية التي جسدها في المشهد ذاته، أثارا لدي تساؤلات عدة حول حضور العمل الجماعي في المجتمعات البشرية عموما، والعربية على وجه التحديد، وهو الأمر الذي يقودنا إلى مفهوم المسؤولية المجتمعية لدى أفراد المجتمع ومدى استيعابهم لمكنوناته الأصيلة.
وبالتالي، كيف يمكن لنا أن نرسّخ هذا المفهوم في وجدان الإنسان العربي، بحيث يقوم بتحمّل مسؤولياته تجاه المجتمع الذي ينتمي إليه، بفاعلية كبيرة؟
ومن الأهمية بمكان ونحن في هذه المرحلة الحضارية التي يمر بها الوطن العربي ككل، خصوصا في راهن الأزمات المالية المتتالية التي تنهال على الاقتصاد العربي من كل حدب وصوب، أن نفعّل مفهوم المسؤولية المجتمعية لدينا، بل ونعيش لحظات ممارسته في جميع جوانب حياتنا.
وعلى ضوء ذلك، فإنه يتوجب على كل فرد أن يشعر بأنه مسؤول عن كل ما يمر به مجتمعه من أزمات وتطورات ومستجدات. ففي وقت الحوادث المرورية على سبيل المثال، يجب أن يكون جميع أفراد المجتمع رجال مرور، وفي وقت الحرائق رجال إطفاء، وفي حالة التلوث البيئي عمّال نظافة، وإلى آخر هذه الواجبات التي تعتبر مسؤولية مجتمعية، تستوجب توسيع دائرة المشاركة مع الحكومة لتشمل جميع شرائح المجتمع، فـ”كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”.
وتجدر الإشارة هنا إلى حملة “تنظيف البر” التي دعا إليها سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية، من خلال موقعه الشخصي عبر “تويتر” للتواصل الاجتماعي، والتي تهدف إلى تنظيف المناطق الصحراوية، وتوعية المجتمع بأهمية الحفاظ على المناطق البرية التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من البيئة الطبيعية الغنية التي تتمتع بها دولة الإمارات.
كما أنها عبّرت عن مدى اهتمام قيادتنا الرشيدة بالعمل المجتمعي، الأمر الذي أثلج صدورنا جميعا، خاصة وأن التفاعل مع الحملة كان كبيراً من جانب شريحة واسعة من أبناء الوطن، الذين لبوا النداء وقاموا بدورهم المعهود على أكمل وجه، وكان سمو الشيخ عبد الله بن زايد في مقدمتهم. وهنا نصل إلى ما نود التأكيد عليه، وهو أن هذا العطاء المجتمعي الكبير يجب ألا ينتهي بانتهاء الحملة، بل يجب أن يستمر حتى يتم تكريسه كسلوك حضاري وعادة إيجابية لدى أفراد المجتمع.. ينعم بثمارهما كل من يعيش على هذه الأرض الطبية.
والجدير ذكره، أن مفهوم المسؤولية المجتمعية لدى الأفراد، يدخل في مختلف جوانب الحياة. فعلى سبيل المثال، فإن الالتزام بقواعد المرور يعتبر من صميم المسؤولية المجتمعية، وكذلك المحافظة على نظافة الطرقات والحدائق والمرافق العامة، فضلاً عن الابتسامة في وجه الآخرين على بساطتها، واحترام كبار السن وتقدير المعاق ومد يد العون للمحتاجين، وغيرها الكثير والكثير مما لو نظرنا إليه من زاوية ما، فسنجدها أمورا بسيطة يمكن لكل إنسان أن يقوم بها، لكنها في الوقت نفسه لها مردودات كبيرة جدا على الإنسان والمجتمع والدولة.
ومن أبرز الصور الجميلة التي شاهدتها في هذا الخصوص، في إحدى الدول المتقدمة، وتحديدا في أحد أحيائها العامرة بالمحبة والتعاون والتآزر، وجدت أن لكل فرد أو أسرة من ذلك الحي وظيفة تطوعية يقدّم من خلالها خدمات جليلة لصالح أهالي الحي، فهذه الأسرة على سبيل المثال تتولى مهام تنظيف حديقة الحي العامة، وأخرى تضطلع بمسؤولية تنظيف هذا المرفق العام أو ذاك، كما أن هذا الفرد مسؤول عن هذا الرصيف وما يحتويه من كراسي استراحة وغيرها، وهؤلاء الشباب يتولون مهمة المحافظة على نظافة شاطئ البحر المطل عليه الحي..
وإلى آخر هذه الفعاليات، والتي ضرب قاطنو ذلك الحي من خلالها أروع الأمثلة في العمل الجماعي المنظم، والذي ينم عن وعي راق وفكر متحضر، أسهما في ترسيخ أهمية المسؤولية المجتمعية لدى الأجيال الناشئة، فضلا عن دورها الكبير في عملية التنمية وبناء الحضارات، وهو الأمر نفسه الذي يعكس الوجه الحضاري لتطور الشعوب وتقدمها.
وتأسيساً على ما تقدم، فإننا نؤكد أنه قد آن الأوان لنعمل على هذا المفهوم بروح التفاعل والجدية، وذلك من خلال اجتماع أفراد كل حيّ أو قرية على حدة، هنا في مجتمع الإمارات، أو في أيٍّ من المجتمعات العربية، ليتبنوا مبادرة اجتماعية تعمل على نظام توزيع المهام المجتمعية فيما بينهم، فكل فرد أو أسرة ما تتولى مسؤولية جزء بسيط لواحدٍ من أيّ المرافق الموجودة في الحي، وهي كثيرة..
فلو عمل كل حيّ على تفعيل مثل هذه المبادرات بتفانٍ وإخلاص ومحبة؛ لوفّر على الدولة أولاً، وعلى أهالي الحي ثانياً، الكثير من الجهد والوقت والمال، فضلاً عن إحياء وتأكيد قيم التعاون والتعاضد والتآزر بين الناس في المجتمع الواحد، والتي قد نسيناها في راهن حياتنا العصرية ذات الإيقاع السريع..
إنها فرصة مميزة فليغنمها الجميع، لننعم بحياة هانئة كريمة، ملؤها المحبة والسعادة والرقي.
– عن البيان