د خالد الخاجة
في حديثه لجريدة “البيان”، أكّد وزير الإعلام الكويتي الشيخ محمد العبد الله المبارك الصباح أن “أولى أوليات وزارة الإعلام في الكويت هي المحافظة على الوحدة الوطنية، وعلى النسيج الاجتماعي، وعدم السماح باشتعال أي فتنة”.
والحق أن هذه المسألة باتت هاجساً يقلق ويزعج كل المتابعين لحالة الإعلام العربي، الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، والعارف بالجاهل، والمخلص بالمتآمر، والمدعي بالصادق، وصاحب الرسالة بصاحب المصلحة، والباحث عن تنوير الناس وتبصيرهم بما يدور حولهم بصدق وموضوعية، بالباحث عن الشهرة والنجومية ولو على حساب الحقيقة والمصداقية.
وهذا الالتباس لم يتوقف عند المتابع والمشاهد العادي وحسب، بل انتاب قطاعاً كبيراً من النخب التي أكاد أجزم أنها لا تملك توصيفاً شافياً لهذه الحالة التي يعاني منها الإعلام العربي، الذي لم تتعد رسالته المصالح القطرية الضيقة، أو المصالح الفئوية المتحزبة لجهة أو لحزب أو لجماعة أو لفصيل دون فصيل، دون النظر إلى المصلحة العامة للأوطان، أو الاكتراث على من ستسقط كرة اللهب التي يلقيها بعض الإعلاميين، ومن هم الضحايا الذين ستأخذهم في طريقها!
كان من المأمول من وسائل الإعلام العربية في عصر الفضاء الفسيح، أن تكون لسان حال الشعوب العربية إلى العالم شرقاً وغرباً، وأن تحمل قضايانا وتبين عدالتها وصدقها، وأن تعرف كيف تخاطبنا وتنجح، بعد أن عانينا طويلاً من غبن إعلامي دولي، إلا أن إعلامنا باستثماراته وطاقته عجز عن أن يقوم بهذا الدور. لقد أطلقنا العديد من الفضائيات لنخاطب بعضنا بعضاً، وقلّما تجد وسيلة تخاطب الغرب، وإن وجدت فهي لا تعرف كيف تصل إلى عقله وفكره.
إلا أن ما برع فيه بعض وسائل إعلامنا في العالم العربي، هو تصدير الفتنة وإشعال الحرائق بين الشعوب العربية بعضها البعض، وحتى داخل الوطن الواحد. وهو في ذلك لا يعدم الحيلة ولا تعوزه الوسيلة، فتارة يلعب على وتر الطائفية أو المذهبية وأخرى العرقية وثالثة الدينية. وإن طال الأمد وأصبح تغيير الأشكال والأدوات ضرورة، مع الحفاظ على الهدف الكبير وهو استمرار الاشتعال، فلا بأس من استخدام وسائل أخرى ولو كانت مباريات كرة القدم.. وحتى الدراما العربية التي كانت توحد بين العرب جميعاً، باتت وسيلة لتوسيع الهوة ووضع بذور الفرقة، عبر حوار يسوده التعصب ونكء الجراح. ولم تسلم “أفلام الكارتون” المقدمة للأطفال من ذات العبث، وكأننا نريد جيلاً يربى على الحقد والكراهية.. والحبل على الجرار!
وأتساءل: كيف ولماذا تبدلت وظائف الكثير من وسائل الإعلام العربية، من التوحيد إلى التفريق؟ ومن السمو فوق المصالح الضيقة والتطلع لمصلحة الوطن ككل، إلى السعي لتحقيق أهداف غاية في الفردية أو الأنانية؟ ومن التوعية والدفع بالعلاقات العربية العربية إلى مزيد من الترابط وبث روح الدافعية والإنجاز، إلى شغل الناس وجعلهم حبيسي دائرة مفرغة لا يستطيعون الخروج منها، وتجاهل ما يجمعنا وهو أكبر بكثير مما يفرقنا؟
والشاهد تلك الأحداث التي شهدتها العلاقات المصرية السعودية منذ أيام قلائل، وكانت نتيجة مباشرة لممارسات إعلامية خاطئة، أشعلت فتيلاً كاد يحدث فتنة بين بلدين شقيقين حول حوادث وتصرفات فردية، يتناولها القضاء، ولا تستحق كل هذا الصراخ والضجيج، إلا أن الإعلام يأبى إلا أن يكون شريكاً مع القضاء! ويتبنى وجهة نظر دون استبصار، ويحقق ويصدر الأحكام؛ ليدغدغ مشاعر الجماهير، ويكسب مزيداً من الشعبية! وهو ما يتنافى مع أبجديات العمل الإعلامي، لولا تدخل الحكماء من الطرفين في وقت ليست الأمة فيه بحاجة إلى مزيد من التشتت.
الخطورة تأتي من تصدر غير المؤهلين للحديث، من الذين تستهويهم الشاشات، ليمطرونا بوابل من التنظير والتحليل والأحكام، والفاتورة تدفعها الشعوب. وهو ذات الخطأ الذي وقعت فيه غير مرة وسائل الإعلام نفسها، يوم أن أحدثت مباراة لكرة القدم بين مصر والجزائر حرباً كلامية لا غاية لها ولا طائل من ورائها، دارت رحاها لشهور، ولم نحصد من ورائها غير الشقة بين الأشقاء، ولم تهدأ إلا حين أطفأ أهل السياسة نيراناً أشعلها أهل الرياضة.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل زاد الطين بلة أن قام بعض من وسائل الإعلام العربية بزرع الفتنة بين أبناء الوطن الواحد؛ باللعب على أوتار المذهبية والطائفية، تحرك بعضها أياد خارجية – لم تعد تخفى على أحد – لا همّ لها إلا زرع الاضطرابات والقلاقل في أوطاننا، وما يحدث في البحرين وغيرها شاهد على ذلك.
العجيب أننا أصبحنا في العالم العربي نعيش واقعين؛ واقع تصنعه وسائل الإعلام، وواقع معيش بعيداً عن تلك الوسائل.. وآية ذلك أن علاقات الشعوب العربية على أرض الواقع المعيش، أقوى بكثير من الواقع المقدم عبر وسائل الإعلام، وهذا ليس له تفسير إلا عجز الثاني عن عكس الواقع الحقيقي، أو أن هناك قصداً لتشويه هذا الواقع لأغراض مطعون في نزاهتها، كما أن السياسات والقضايا العالقة بين الدول لا تدار في كثير من الأحيان عبر وسائل الإعلام، بل إن تناول الإعلام لبعض القضايا قد يضفي عليها مزيداً من التعقيد والتأزم.
من هنا فإنني أدعو الإعلاميين العرب أن يكون لديهم ما يسمى بـ”فقه الواقع”، الذي جعل الإمام الشافعي (يرحمه الله تعالى) يفتي بالمسألة في العراق ويغيرها في مصر، ولما سئل عن ذلك أجاب: إن أهل العراق ليسوا أهل مصر. ووسائل الإعلام العربية أحوج ما تكون لأن تدرك واقع عالمنا وما يحيط به من أخطار وما يُكاد له بِليل، الأمر الذي يتطلب منا أن نتحسس الكلمة كثيراً قبل أن نطلقها؛ لأنها كالطلقة لا يمكن استرجاعها أو إصلاح ما تفسده إلا بصعوبة. إن فقه واقع الشعوب العربية يتطلب أن نعرف ماذا نقول، ومتى، وكيف نقوله، فلا يجب أن نصب الزيت على النار، ونلبس فعلتنا ثوب الحرية؛ بحثاً عن الشهرة الزائفة أو البطولات الوهمية.
إن على وسائل الإعلام العربية أن توحد ولا تفرق، وأن تقرب ولا تباعد، وأن تكون من عوامل الحل لا جزءاً من المشكلة، وأن يكون ولاؤها الأول للوطن وقضاياه مهما كانت سياستها وتوجهاتها، وأن تدرك أن دورها الرئيس يتمثل في درء الفتنة وغلق كل أبوابها، بل إن درأها المفسدة أولى من جلبها المنفعة
– عن البيان