علي عبيد

عدد الإماراتيين الذين حجزوا للسفر إلى ألمانيا حتى الآن 855 ألفا، يرجى من آخر المغادرين أن يطفئ الأنوار، ويغلق الأبواب، ويضع المفاتيح تحت برج خليفة”.

هذه الرسالة التي انتشرت منذ بداية الصيف عبر أجهزة البلاك بيري والرسائل الهاتفية النصية وفي مواقع التواصل الاجتماعي الجديد، لا شك أنها تحتوي على الكثير من المبالغة من حيث عدد الإماراتيين الذين سيصيفون هذا العام في ألمانيا، كما أنها تبخس الدول الأخرى نصيبها من مصطافي الإمارات الذين يجوبون الكرة الأرضية من مشرقها إلى مغربها خلال شهور الصيف، بحثا عن نسمة هواء عليلة، تطفئ حرارة الطقس اللاهبة، وتنعش الروح، وتجدد نشاط البدن.

السياحة في حد ذاتها فعل حضاري لا ضير في أن نمارسه، وهي مصدر من مصادر الدخل لكثير من الدول، لا يقل أهمية عن النفط إذا ما قارناه بمصادر الدخل في الدول النفطية على سبيل المثال، بل لعلها أكثر دخلا من النفط في بعض الدول.

كما أنها صناعة لها أصول وقواعد يتقنها بعض الدول، فتحقق من ورائها عوائد كبيرة، بينما تفشل دول أخرى لديها مقومات سياحية هائلة في استثمار هذه المقومات بالشكل الأمثل، ولا تجني من ورائها سوى الفتات الذي تجني أضعاف أضعافه دول لا تمتلك ربع ما تمتلكه هذه الدول.

ما يهمنا من الأمر كله ليس عدد الإماراتيين الذين يسيحون كغيرهم خارج الإمارات كل عام على مدى الفصول الأربعة، ولا أين يذهبون، ولا أين يستقر بهم المقام في شرق الكرة الأرضية أو غربها، وإنما هو نوع السياحة التي يمارسونها، ومدى الفائدة التي يجنونها مقارنة بما ينفقون من أموال خلال هذه الفترة التي تطول وتقصر تبعا لإمكانات كل منهم، وهي إمكانات متفاوتة، ربما كان مصدر بعضها الاقتراض.

وهذا أسوأ ما يمكن أن يحدث، رغم أن البعض يراه حقا مشروعا، وحلاً لا غضاضة في اللجوء إليه عندما تقصر ظروفه المالية عن تلبية حاجته إلى السفر، باعتباره مواطنا يكدح طوال العام، فلا أقل من أن يقتطع أياما يستمتع خلالها، بعيدا عن حرارة الصيف وضغوط العمل، حتى لو كان هذا عن طريق الاقتراض من البنوك التي تنشط في موسم الهجرة إلى المصايف، فتقدم عروضا مغرية يسيل لها لعاب الكثيرين ممن لا يجدون ما ينفقون على السفر.

ورغم أننا لسنا من مؤيدي فكرة المقارنة بين السائح العربي والسائح غير العربي، التي يعتبرها البعض فكرة قديمة ومستهلكة، إلا أن نظرة فاحصة إلى مرتادي القصور التاريخية والمساجد الشهيرة في مدينة “إسطنبول” التركية، على سبيل المثال، تجعلنا نلجأ إلى فكرة المقارنة التي نحاول الابتعاد عنها قدر الإمكان تحاشيا لاستفزاز الذين لا يستسيغونها.

فتركيا التي أصبحت وجهة سياحية مرغوبة لدى مواطني الإمارات والدول الخليجية، خاصة بعد ارتباك الأوضاع وتوترها في دول الربيع العربي السياحية، وبعد “حريم السلطان” و”ما هو ذنب فاطمة غول” وغيرها من المسلسلات التركية التي غزت الشاشات العربية، وهزمت المسلسلات المكسيكية بالضربة القاضية.

تركيا هذه ربما لا يعرف كثير من زوار عاصمتها الثقافية والتجارية “إسطنبول”، سوى ميدان “تقسيم” حيث المقاهي والمطاعم وأغلب الفنادق، وشارع “الاستقلال” الذي يبلغ طوله ثلاثة كيلومترات تقريبا، ويزوره يوميا ما يقارب الثلاثة ملايين شخص، في الوقت الذي تحمل فيه المدينة إرثا حضاريا عبر تاريخها الطويل الممتد من الألفية السابعة قبل الميلاد.

حيث كانت عاصمة لعدد من الدول والإمبراطوريات، منها الإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية البيزنطية، والإمبراطورية اللاتينية، قبل أن تصبح عاصمة للخلافة الإسلامية بعد سقوطها في يد العثمانيين على يد “محمد الفاتح” عام 1453 وتغيير اسمها من “القسطنطينية” إلى “إسلام بول”، وحتى انهيار الدولة العثمانية عام 1924، ثم تغيير اسمها مرة أخرى إلى “إسطنبول” عام 1930 ضمن إصلاحات “أتاتورك” القومية.

“إسطنبول” التي تحتوي على عشرات المعالم التاريخية، تتنوع بين القصور والمساجد والكنائس والأسواق والمتاحف ومعارض الخط والفنون التشكيلية، ليست إلا مثالا على المدن الكثيرة التي نزورها وتحتوي على معالم كثيرة، لا نعرف منها إلا القليل، ولا نرى منها إلا الأقل.

حيث تصبح وتغدو وجهتنا اليومية المقاهي المنتشرة في الشوارع والميادين الشهيرة، مثل شارع “الشانزيليزيه” في باريس، وميدان “مارين بلاتس” في ميونيخ، وحديقة “هايد بارك” في لندن، والمحلات ومراكز التسوق المعروفة في شوارع “أكسفورد” في لندن، و”نانا ستريت” في بانكوك، وغيرها من الأماكن التي تعودنا ارتيادها في العواصم والمدن الغربية والشرقية، لنعود في نهاية الرحلة بحقائب كثيرة ومعلومات قليلة عن الأماكن التي زرناها وأنفقنا فيها الكثير.

نحن نعيش في بلد يضم أكبر مراكز التسوق في العالم، وتنتشر فيه المحلات التجارية التي تتفاوت متسوياتها لتناسب الأذواق المختلفة والإمكانات المادية المتفاوتة، كما يتمتع بلدنا، ولله الحمد، بطقس رائع في فصل الشتاء، جعل منه مقصدا لكثير من السياح الذين يهربون من صقيع الشتاء في بلدانهم ودرجات الحرارة التي تنخفض إلى ما دون الصفر بكثير، فتشل حركة الحياة لديهم، ليستمتعوا بدفء الإمارات وشواطئها، كما تنشط بعض إماراتنا في فصل الصيف فتنظم مهرجانات صيفية تستقطب الكثير من الأسر الخليجية، وتجعلها تغير وجهتها السياحية فتختار الإمارات مصيفا لها، لأسباب كثيرة لا تخفى على أحد.

كل هذا يجعل من موسم الهجرة إلى المصايف مناسبة للتغيير والاستفادة وتجديد النشاط، حتى لو نشط البعض في ابتكار النكات ونشرها عبر الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي الجديدة، فرب ضارة نافعة، ورب طرفة دفعتنا إلى مقاومتها، لنثبت لمن أطلقها ونشرها أننا لن نطفئ الأنوار، ولن نغلق الأبواب، وأننا باقون حول “برج خليفة” لن نغادر محيطه

– عن البيان