د. فاطمة الصايغ
عندما أخذت دولة الإمارات قضية ديون المواطنين المتعثرين بعين الاعتبار وأوجدت لها حلًا عن طريق إنشاء ما يسمى لجنة الديون المتعثرة لم تكن، كما يعتقد البعض، تحاول فرش الطريق لمواطنيها بالورود وحثهم على المزيد من الإنفاق والاستهلاك والاقتراض من البنوك أو حل مشاكلهم المادية عوضا عنهم.
وإنما كانت تريد أيجاد الحلول الآمنة والمضمونة لقضية باتت تشغل بال عدد كبير من المواطنين وتحرمهم هم وأسرهم من نعمة الأمن والأمان في مجتمعهم. قضية ديون المواطنين، وبالذات المتعثرين ماديا، درستها الجهات المختصة دراسة واعية ومستفيضة وصدر بشأنها مرسوم سامي يهدف إلى إنشاء صندوق لمساعدة هؤلاء، أو بشكل أدق، إنقاذ هؤلاء من براثن قضية اقتصادية ومجتمعية صعبة .
ووضعهم ثانية على الطريق الصحيح لاستكمال حياتهم بشكل سليم. معظم هؤلاء أصحاب أسر وعوائل، ومعظم هؤلاء أضطر للاقتراض من البنوك لتلبية حاجات اعتبروها هم وفي وقتها ضرورية ومهمة، ولكنها تحولت إلى فخ قاتل أصطاد أحلامهم وأمنهم. البعض أقترض ليسدد تكاليف زواج باهظ، والبعض اقترض لمشروع تجاري ربما لم يكلل بالنجاح.
والبعض اقترض لمواجهة تكاليف الحياة الباهظة وضعف ذات اليد وقلة الحيلة، والبعض أقترض لشراء كماليات ووسائل رفاهية لم يستطع أن يعيش من دونها، ولكن الكل هنا وقع في مصيدة كبيرة، أو على الأصح فخ كبير، الا وهو فخ الديون التي عجز عن سدادها وعجز راتبه عن الايفاء بكامل أقساطها. وتراكمت الديون وعجز صاحبها عن ايجاد وسيلة لحلها واضطر في النهاية إلى التنازل عن أمنه وأمانه، بل وفي أحياناً كثيرة عن حريته، ليعيش مسجوناً لقضية كبيرة الا وهي قضية دين متعثر به.
فلنا أن نتصور حالة الشخص العاجز عن سداد دينه، ولنا أن نتصور حالة الشخص الذي يمضي فترة محكوميته في السجن لأنه غير قادر على السداد، ولنا أن نتصور حالة أسرته والمصير المجهول الذي ينتظرهم، ولنا أن نتصور أيضا كيف يتحول المسجون إلى عبء مجتمعي يثقل كاهل الدولة.
البنوك من جهتها لعبت دورا مهما في أيهام الشخص ودفعه لكي يسقط برجليه في حفرة الديون. فقد وفرت له أضعاف راتبه ووضعت له كافة التسهيلات والحوافز المادية المغرية لكي يقترض دون أن يحس بالخسارة. فالهدايا المجانية والالكترونيات الفاخرة تصاحب ذلك القرض الذي غالبا ما يصبح طعما مغريا للشباب على وجه التحديد لكي يقترض وهو سعيد.
وطبقا للإحسائيات فإن ما بين 70-90% من الشباب المواطن مقترض أو يفكر في الاقتراض لسد حاجاته المعيشية، خاصة بعد أن وجد الشباب في البنوك ملجأ مريحا وسهلا يوفر لهم ما عجزوا هم عن توفيره. فقد سهلت لهم البنوك مهمة الاقتراض ومهمة التخطيط لسداد ذلك القرض، ولكنها صعبت عليهم أمر التعامل مع القرض حين التأخر في سداد أحد الاقساط.
الشباب من جهتهم لم يفكروا كثيرا في كيفية سداد تلك المديونيات العالية ولا في السجون التي تترصدهم أن لم يتم تسديد مديونياتهم تلك. وقد نجد الأعذار لمن يقترض لمواجهة مطالب الحياة المرتفعة وتكاليفها الباهظة، ولكننا لا نجد الاعذار لمن يقترض أو يوقع اسرته في مصيدة الاقتراض لتلبية متطلبات حياة الرفاهية التي يحب أو يتمنى أن يعيشها.
ولكن عذر الجميع بأنه مدفوع إلى اتباع نمط الحياة التي يحياها لأنه لا يوجد بديل آخر. فنمط الحياة الحديث المعقد الذي نعيشه يتطلب كماليات كثيرة تحولت إلى ضروريات مهمة. فالسيارة الجيدة والهاتف الذكي والملابس الماركة وإقامة الافراح في فندق خمس نجوم جميعها أصبحت في رأي الكثيرين ضرورة للوجاهة الاجتماعية التي أصبح الجميع مدمنا عليها. لذا لا بد من الاقتراض من البنوك ان لم توجد وسيلة اخرى لإيجاد المال.
الجهات المسؤولة في الإمارات أدركت بأن قضية الاقتراض قد تجاوزت كل الحدود وأصبحت مسؤولية مجتمعية كبيرة يجب أن لا تترك للبنوك وقوانينها ولا للأفراد ونمط حياتهم، خاصة بعد أن تحولت إلى قضية تجارية بحتة يشترك فيها أكثر من طرف، فتعاملت الدولة معها كقضية تمس أمن وسلامة المجتمع في المقام الأول.
فالديون وإفرازاتها تؤدي إلى خلق مجتمع مفكك وغير آمن وأفراد غير مستقرين نفسياً واجتماعياً. لذا جاء إنشاء هذه اللجنة والأطر التي وضعتها كحل يضمن إيجاد حلول ناجعة لقضية مستعصية. لقد جاءت لجنة مساعدة المواطنين المتعثرين كحل مجتمعي ينقذ شريحة واسعة من المواطنين ويساعدهم على حل مشاكلهم المادية المستعصية والعودة مرة أخرى لممارسة حياتهم الطبيعة التي نأمل أن تكون خالية من الديون.
وخير فعلت لجنة المتعثرين حين وضعت الضوابط التي تمنع وقوع الشخص المدين مرة أخرى في فخ الدين عبر منعه من الاقتراض في فترة سداد مديونيته وعبر توعيته بأن الدرس الذي أخذه هو درس يجب أن يتذكره بقية حياته.
قضية أخرى يجب أن ننتبه لها ألا وهي قضية التوعية للنشء منذ الآن. فمعظم المتعثرين لم يجدوا من يثقون به ويستمعون إلى رأيه الصحيح، ومعظم المتعثرين عجزوا عن التخطيط المالي السليم لمستقبلهم، ومعظم المتعثرين عجزوا عن إيجاد الحلول السليمة لقضاياهم المالية. وهكذا سدت جميع الطرق في وجوههم ووجدوا أنفسهم في مأزق مالي خطير قاد الكثير منهم إلى السجون.
فقوانين البنوك صارمة ولا ترحم أو تعرف الرأفة. فهي مؤسسات تستثمر أموالا عامة ولا تريد لنفسها الخسارة. وهكذا يدور الجميع في دائرة لا يوجد أمل في الخلاص منها إلا في حل يضمن مصالح ورضا الطرفين. فقيام الدولة بإنشاء هذه اللجنة انما هو مراعاة لمصالح جميع الأطراف. فهو يضمن ليس فقط مصالح الدائن والمدين بل ومصلحة المجتمع في المقام الأول. فمجتمع خال من الديون هو مجتمع آمن ومستقر وضامن لحياة سليمة ومستقرة.
– عن البيان