علي عبيد
يصحو أبناؤنا كل يوم من نومهم.. يسابقون عقارب الساعة كي يلحقوا بمدارسهم.. يقفون في طابور الصباح.. يحيّون علم بلادهم.. يستمعون إلى سلامها الوطني.. ويرددون نشيدها. يكبر الأبناء.. وفي حفل تخرجهم.. يتسابق أولياء الأمور كي يجدوا مكانا في الصفوف الأولى.. يعزف السلام الوطني.. بينما يرفرف علم الدولة في خلفية المسرح المعد للاحتفال..
فيقف الجميع تحية له. يتخرج الأبناء.. فيلتحق بعضهم بالكليات العسكرية وكليات الشرطة كي يحموا وطنهم.. وفي تلك الكليات.. يبدأون صباحهم بالوقوف لتحية علم بلادهم.. والاستماع لسلامها الوطني.. وترديد نشيدها. نرى علم بلادنا يرفرف فوق وزاراتنا ودوائرنا ومؤسساتنا وبيوتنا.. فنشعر بعظمة الانتماء للوطن. نسافر فنراه فوق سفاراتنا وقنصلياتنا والمنظمات الإقليمية والدولية في الخارج..
نشعر بالفخر والاعتزاز.. ونردد جميعا مع حملات تعزيز هويتنا الوطنية: “ارفعه عاليا ليبقى شامخا”. وبعد هذا كله.. نكتشف أن هذا العلم ليس أكثر من مجرد قطعة قماش وصنم، وأن الوقوف له معصية لا شك فيها.. وأن ترديد النشيد الوطني ذريعة إلى الشرك وتقليد للكفار في عاداتهم القبيحة.. وأن التحية العسكرية بدعة منكرة منهيٌّ عنها شرعا!
قبل أيام نشرت الصحف وتناقلت المواقع الإلكترونية خبرا عن نائب ينتمي إلى التيار الإسلامي السلفي في أحد البرلمانات الخليجية، رفض الوقوف للنشيد الوطني خلال الاحتفال بافتتاح عيادات طبية في أحد المستشفيات، بدعوى أن الوقوف للنشيد الوطني ليس واجبا شرعا.
وفي الخبر نفسه وصف نائب آخر، ينتمي إلى التيار نفسه، علم بلاده بأنه “خرقة”، وقال خلال جلسة برلمانية تناولت قضية عدم رفع علم دولته في المحافل الرياضية بسبب عقوبات فرضتها “الفيفا” عليها، إن ارتفاع علم بلاده أو عدم ارتفاعه لا يهمه، لأنه ليس سوى “خرقة”!
هذان الموقفان ومواقف أخرى مشابهة، ليست صادرة من فراغ، وإنما هي قائمة على فتاوى شرعية تحرِّم الوقوف للنشيد الوطني، وأداء التحية للعلم، والتحية العسكرية بين الجنود. فعلى الموقع الرسمي للشيخ صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وعبر برنامج “نور على الدرب” الإذاعي، يوجه مستمع إلى الشيخ سؤالا يقول:
أنا مدير مدرسة، وقد أتاني تعميم من إدارة التعليم بوجوب إلقاء تحية العلم والوقوف له، وإلقاء النشيد الوطني للطلاب، فما حكم هذا الفعل، وهل لي أن أطيع؟ يجيبه الشيخ قائلا: هذه معصية بلا شك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”، فإذا أمكنكم، تتخلص منها ولا تحضرها، فافعل.
وعلى موقع “الإسلام سؤال وجواب” الذي يشرف عليه الشيخ محمد صالح المنجد، يرد الشيخ على سائل يستفسر عن جواز أداء التحية العسكرية بين الجنود، فيقول: التحية العسكرية التي تكون بين الجنود بعضهم البعض، وتكون بالإشارة باليد، هي تحية منهيٌّ عنها شرعا، وإنما تحية المسلمين تكون بقول السلام عليكم، وأما تحية العلم فهي بدعة محدثة، لا تجوز المشاركة فيها، في الجيش أو المدرسة أو غيرها .
كما بيّن أهل العلم. وقد سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء: هل يجوز الوقوف تعظيما لأي سلام وطني أو علم وطني؟ فأجابوا: “لا يجوز للمسلم القيام إعظاما لأي علم وطني أو سلام وطني، بل هو من البدع المنكرة التي لم تكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم، وهي منافية لكمال التوحيد الواجب وإخلاص التعظيم لله وحده، وذريعة إلى الشرك.
وفيها مشابهة للكفار وتقليد لهم في عاداتهم القبيحة، ومجاراة لهم في غلوّهم في رؤسائهم ومراسيمهم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مشابهتهم أو التشبه بهم”. يتفق مع هذا الرأي الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، رحمه الله، الذي يقول في “الأجوبة الألبانية على الأسئلة الكويتية”: إن الكف عن الحركة أمام العلم يخلّ بالإسلام والشريعة والآداب الإسلامية، وإنه تعظيم أشبه بتعظيم الأصنام، لأن العَلَم عبارة عن قطعة قماش.
فتاوى صادرة عن علماء نجلهم ونحترمهم، ولا ننتقص من قدرهم أو علمهم، لكننا نعتقد أنهم قد غالوا في تقديرهم للأمور وحمّلوها فوق ما تحتمل، ولم يراعوا اختلاف ظروف العصر وتطوره. فتاوى تجعلنا نقف حائرين متسائلين: هل نحث أبناءنا على احترام علم بلادهم، ونطلب منهم أداء التحية له في طابور الصباح وهم ذاهبون إلى مدارسهم، أم نقول لهم إن العلم صنم ورجس من عمل الشيطان فلا تقفوا لتحيته؟
هل نهبّ واقفين عندما يعزف السلام الوطني في المناسبات الوطنية والمحافل الدولية، أم نبقى جالسين في أماكننا سدًّا للذرائع إلى الشرك؟ هل نلزم جنودنا بأداء التحية العسكرية أم نطلب منهم الاكتفاء بإلقاء السلام كي لا يكونوا مقترفين لأمر نهى عنه الشرع، مقلدين للكفار؟
فتاوى تضعنا في مواجهة مع مناهج تعليمنا التي ننشّئ عليها أبناءنا، وبرامج تعزيز هويتنا الوطنية التي نحاول ترسيخها في نفوس مواطنينا، والانضباط العسكري المتعارف عليه في كل الجيوش والقطاعات الشرطية.
والأهم من هذا كله، أنها تضعنا في مواجهة مع آبائنا وأجدادنا الطيبين المتدينين دون غلوّ، أولئك الذين تعلمنا منهم الوسطية والاعتدال، ونكاد نفقدهما اليوم على أيدي هؤلاء الذين يريدون إسقاط وسطيتنا واعتدالنا، ويدفعوننا إلى التزمت الذي لم تعرفه هذه الأرض، ولن تكون له ساحة، لأنه ضد فطرة أبنائها التي لن يحيدوا عنها، حتى لو حاول البعض أن يتصرف خلاف ذلك.
– عن البيان