د خالد الخاجة
ما من شك في أن مستقبل أية أمة مرهون بحال أطفالها، وإذا أردت أن تعرف مقامها في المستقبل انظر في ما أقامت كافة المؤسسات المجتمعية لأطفالها. ولأن الإعلام أحد أهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية والقادرة على الاستهواء والجذب، وخاصة لدى صغار السن، لذا يصبح في حكم اليقين أن المائدة الإعلامية اليومية التي تقدم للطفل، هي العامل الأكثر تأثيرا في تحديد مساره مستقبلا.
أقول هذا بعد نظرة مسحية متأملة لما يقدم لأطفالنا عبر تلك الشاشة السحرية، التي يقضي أمامها أطفالنا فترات زمنية تفوق أية وسيلة أخرى، وتزداد هذه الفترات مع العطلات الصيفية. والحق أن نظرة متعمقة إلى ما يقدم لأطفالنا عبر الشاشات العربية – باستثناءات محدودة للغاية – تؤكد بما لا يدع مجالا للشك غياب الرؤية.
والقضية لا تعدو في النهاية أن تكون ملء ساعات لمئات من القنوات الفضائية التي تم إطلاقها، دون أن تكون لدينا مادة برامجية جديرة بالعرض، ودون أن نحدد بدقة الغرض من إطلاقها ومدى الحاجة إليها، ثم بعد ذلك ذهبنا نبحث عن حشو ساعات الإرسال بما يصلح أو لا يصلح، وبما ضرره – وخاصة لدى النشء والشباب- أكبر من نفعه.
ثم على الجانب الآخر، كانت الرغبة العارمة في الربح والحصول على النصيب الأكبر من الكعكة الإعلانية، عاملا حاسما في تسليع الإعلام وإخضاعه إلى منطق العرض والطلب، بغض النظر عن القيمة الحقيقية أو الفكرية له، فالمهم أن تزداد مصادر الدخل للقناة، وهذا انحراف عن الهدف الأكبر والأشمل لصناعة الإعلام.
وبنفس النظرة المسحية لما يقدم لأطفالنا، نجد أن المادة المقدمة تتسم ببعض السمات، منها أنها تسير بنفس المنطق الاسترخائي، حين نكتفي بأن نحضر لأولادنا ما يسمى الأكلات السريعة أو الوجبات الجاهزة، بصرف النظر عما تسببه لهم من متاعب.. سرنا بنفس المنطق في تقديم مادة إعلامية وافدة في الأساس على ثقافتنا وبيئتنا ونقوم بعرضها كما هي.
ومن باب ذر الرماد في العيون، لا مانع من عمل نسخ عربية لبرامج هي في الأساس أجنبية! على سبيل المثال لا الحصر، فإن برنامج “آرابس جوت تالنت” هو النسخة العربية من البرنامج البريطاني “جوت تالنت”، الذي عرض عام 2009 في الولايات المتحدة الأميركية على قناة “إن بي سي”، والحق أنني شاهدت بعض الحلقات بدافع الفضول، بعد أن وجدت أن نسبة كبيرة من الأطفال والكبار أحيانا يشاهدونه.
خاصة وأن المتسابقين في هذا البرنامج تتباين أعمارهم كذلك، لكنني أصبت بحيرة شديدة لأن اسم البرنامج لا يعبر عن رسمه ومحتواه، ففي حين يتحدث عن المواهب العربية، فإنك لا تجد أية مواهب عربية، وما يتم تقديمه – إلا ما ندر- هو مسخ مشوه لا يدعو إلى الإعجاب أو الانبهار أو التميز، بل يدعو إلى الرفض.
ثم، هل حقا ما يتم تقديمه أسبوعيا عبر هذه النوعية من البرامج المقلدة مواهب عربية فعلا؟ أم أنه استنساخ لا يمكن أن تكتب له الحياة لنماذج غربية مفروضة على الطفل العربي؛ لتصبح له القدوة والنموذج الذي يجب أن يتبناه أو يسير على خطاه، وهذا ما تؤكده طريقة إلقاء وأداء مقدمي البرنامج.
إنني أتساءل: هل أصيبت عقول المبدعين العرب بالتيبس للدرجة التي أصبحنا فيها مجرد باحثين عن النسخ والتقليد لأفكار الغير دون أن نحاول أن تكون أفكارنا من بيئتنا؟ مثل التلميذ الفاشل الذي يحاول أن يستنسخ الإجابة من غيره وهو لا يدري أصحيحة أو خاطئة، إذ المهم أن يسود أكبر كم من ورقة الإجابة!
ثم، ما هو الشيء المعجز في جميع البرامج التي يتم نسخها، سواء في “لعبة الحياة” أو “لحظة الحقيقة” أو “وزنك ذهب” أو “أراب أيدول” أو “أراب جوت تالنت”؟ و ما هي الفكرة العبقرية الفذة في هذه البرامج التي ملأت أسماعنا ضجيجا؟ وهنا يأتي الوجه الآخر للبرامج المقدمة أو المقلدة، قل ما شئت، وهو الإعجاب بالآخر لدرجة الانبهار والإحساس بأننا ليست لدينا القدرة على تقديم شيء إزاء ما يفعله، مع ما يصاحب ذلك من شعور بالعجز وقلة الحيلة، وهو ما يولد يأسا وإحباطا يتم تصديره في هذه النوعية من البرامج المغلفة بصوت زاعق، خال من أي مضمون أو قيمة حقيقية.
فهل من المواهب أن يؤذي المتسابق نفسه بأكل الزجاج أو بوضع الحراب في جسده؟ ومن هنا فإن تكريس العنف في العديد من البرامج المقدمة، يترك لدى الطفل معاناة ويزرع مخاوف وميلا إلى استخدام القوة في تحقيق ما يريد، كما أن تكرار مشاهدتها يؤدي عبر الزمن إلى ألفتها وعدم الاكتراث بما يحصل من عنف على أرض الواقع أو محاولة التقليد، وهو الجانب الأخطر الذي يوضح أن هناك اتجاها لتكريس قوالب محددة في الشكل والمضمون، تقدم للطفل على أنها النماذج التي يجب عليها السير في ركابها.
وهذا يتم على أساس الشخصيات المبهرة التي تقدم له، وهو ما يؤدي إلى التوحد مع نماذج من خارج ثقافتنا ويصبح كأنه النموذج، وهنا فما نراه من سلوكيات تفاجئنا من أطفالنا واختياراتهم في الملبس والمأكل والفنون وغيرها، تأتي في سياق هذا التوحد الذي تم عبر ما يقدَّم إعلاميا.
أضف إلى ذلك أن الكثير مما يقدم للطفل يكرس لديه النزعة الاستهلاكية، عبر رسالة إعلانية مبهرة تدعوه إلى مزيد من الاستهلاك، وهو الأمر الذي إن لم تصحبه قدرة مادية لديه، فإنه قد يؤدي إلى الشعور بالإحباط إزاء هذه الحالة من ثورة التطلعات التي لانهاية لها.
إن من الأهمية بمكان ألا تتعامل وسائل الإعلام مع المادة المقدمة للطفل باعتبارها أقل أهمية، بل على العكس هي الأخطر والأهم؛ لأنها تؤسس لما ستكون عليه شخصيته مستقبلا، كما أنني أدعو وسائل الإعلام العربية إلى التنقيب عن المضمون النابع من ثقافتنا، وبأهداف محددة ومقصودة، بعيدا عن العشوائية والتخبط.
– عن البيان