عندما تجلس أمام مشهد لعرض الأزياء تقفز أمام عينيك مجموعة من الصور، تتخيل أولاً أن العرض ليس للأزياء، وإنما استعراض لأجساد منحوتة، تمضي على الأديم المصقول كالماء المصبوب. وتتخيل أيضاً أن هناك غشاً تجارياً في ما يعرض أمامك كون العارضات يمثلن الامتهان المزري للأنوثة. وتتخيل أيضاً أن هناك مكراً ودهاءً لدى المرأة حينما تتحايل على البائع والمشتري معاً بعرض بضاعة قد لا تكون بالجودة التي يعلن عنها، ولكن بصيغة الإيحاء تبدو أمام الناظر أن كل ما يلمع ذهب.
هذا العرض لا يختلف كثيراً عن رديفه في مجال التسييس للقيم الإنسانية السامية، فالعارضون يبدون وكأنهم يمارسون الإيحاء بالشعوذة، ويخلطون السياسة بالدين مثلاً ليصبح الدين مطية لتحقيق مآرب أخرى يتكئ عليها هؤلاء العارضون. ونحن في زمن العرض المسرحي الهزيل في أشياء تخص الإنسان وحياته، أشياء يترتب عليها مصيره ومصير أجيال متلاحقة، والمسرحيون كثر، والمخرجون يمارسون التنويم المغناطيسي للاستيلاء على مشاعر الناس والسطو على إرادتهم بهدف تمرير غايات موغلة في القدم، والعدم أيضاً.
عارضون سياسيون يمسرحون السلوك بأدوات تمثيلية هزيلة تعبر عن زمن بشري يمر بأسوأ حالاته، فالذين سيّسوا الدين مثلوا الأدوار بمكر لا يخلو من الهزلية والسفسطائية المريرة التي عانى منها سقراط قبل غيره، كانوا في المعارضة يقفون موقف الضد من كل ما يعرقل حياة الإنسان النشيط، وما أن بسطوا النفوذ نبت الريش في أجنحتهم وحلقوا بعيداً عن قضايا الناس وصاروا يبحثون في أشياء لا تمت إلى الشعارات التي أغرقوا فيها البحار والأنهار، وتركوا المواطن “الغلبان” يئن ويحن إلى ماضٍ بكل سوءاته كان أحسن مما هو فيه الآن. تركوا الذي لهث خلفهم بحثاً عن بصيص نور، يلعق جراح إحباطاته وينكفئ ويتيقن من أن كل ما سمعه من مواويل هو مجرد خرافة، مجرد أحلام فقراء تضيء في الليل البهيم، ثم يصحون على خواء وهراء ولا شيء غير ذلك.
إذاً أليس عرض الأزياء مثالياً جداً في معيار الجمال، فيما لو قيس بما نشاهده من صور لأحلام اليقظة، وبخاصة إذا كانت العارضات من ذوات الأعناق الشفافة والعيون الغزلانية المكحولة بأهداب أسود من الليل.
نقول يارب لطفك، كيف تم اختطاف المشاعر الإنسانية بهذه الصورة المؤسفة؟ وكيف استطاع “التجار” أن يستخدموا الدين وسيلة وحيلة لارتكاب أفظع الجرائم بحق أوطان الناس، وتحويل المجتمعات إلى إخوان وغير إخوان، على الرغم من أن الإنسانية أخوة بالفطرة قبل كل شيء، فكلنا من آدم وآدم من تراب، لكن البعض يريد أن يهيل التراب في أعين الناس كي لا يروا حقيقة الأمور، وليتبعوا من يتبعون دون وعي أو من وازع ديني حقيقي كما أنزله الله على رسوله الكريم. البعض يريد فكرة مبهمة غائمة معتمة، ويريد الآخرين سعاة بريد ينقلون ما لا يعقله العقل، وما لا ينطقه المنطق.
– عن الاتحاد