د. فاطمة الصايغ
مقالة الأسبوع الماضي ” قانون للحشمة في بلدنا ” أثارت الكثير من ردود الفعل، البعض مستاء لأنه يرى نفسه غيوراً على المجتمع ويرى ضرورة فرض مثل هذه القوانين لحماية مجتمعنا.
والبعض الآخر تجتاحه مشاعر متفاوتة إزاء فرض قوانين كهذه أي كان نوعها. فهو يعتقد أن مثل هذه القوانين سوف تعود بنا إلى الوراء عقود بل قرون وسنفقد رصيدنا الحضاري الذي تحقق. أما البعض الثالث فأرسل من دون تعليق بعض المقالات المستاءة من تصرفات بعض الخليجيين في الخارج والتي تزعم أننا بهذا القانون أنما نمارس النفاق.
بينما يحل لنا في الخارج أن نفعل ما نشاء خاصة في بلدان أوروبا ولبنان والمغرب والشرق الأقصى. وبينما تفاوتت ردود الفعل بين مؤيد ومعرض أرسل البعض مقتطفات من بعض ما نشرته وسائل الإعلام الأجنبية بشأن منحى دبي على الخصوص إلى التشدد مع الأجانب وترحيل البعض ممن أرتكب تصرفاً يعتبر في نظرنا جرماً يخدش الحياء العام. كما أرسل البعض تحليلات بأننا بهذه القوانين أنما نحاول استيراد نماذج من دول مجاورة حتى وأن كانت النماذج المطبقة غير ناجحة.
الكثير استفزه الموضوع من ناحية حضارية واجتماعية والكثير أظهر استياءه ولكن القليل نظر إلى الموضوع من ناحية علمية صرفة، والقليل أدرك بأننا في مجتمع سريع التطور على الفرد فيه أن يدفع ضريبة تطوره ذاك . القليل أدرك بأننا نعيش في مجتمع لا يزال حائراً أمام نماذج تنموية عدة ونظريات متعددة، ومجتمعنا حائر أمام هذه النماذج والمقولات كلها.
مجتمعنا حائر أمام العولمة الشرسة ومقتضياتها، وحائر أمام التغير السريع ومتطلباته وحائر أمام التمدن الكبير وحالاته. مجتمعنا أيضاً لا يريد أن يفقد اهتمام الآخرين به، خاصة الغرب، بتجربة دولتنا. فالغرب يريد بقاء تجربتنا الحضارية واستمراريتها، إنه يعتبرها انموذجاً جيداً يجب تطبيقه في جميع البلاد الإسلامية.
إذاً مجتمعنا حائر حتى في طريقة تطوره. فهو مدرك أنه سائر في طريق لا رجعة فيه، ليس باختياره وحده ولكن أيضاً باختيار الآخرين له باعتباره تجربة فريدة ونموذجية يجب الاحتفاظ بها وعدم إلغائها. الآخرون سعداء بتجربتنا تماماً مثل سعادتنا نحن مع فرق الأسباب.
نحن سعداء بتجربتنا لأننا بنيناها من الأساس حجرا حجرا وخطوة خطوة، تجربة نعتقد بأننا استلهمنا أطرها من ثقافتنا وتاريخنا وواقعنا، وحولناها إلى أنموذج رائع من جميع النواحي :سياسياً، اقتصاديا واجتماعيا.
الآخرون سعداء بتجربتنا لأنها تجربة غير مألوفة في منطقة الشرق الأوسط، تجربة تجمع بين الحداثة والمعاصرة، التدين والتسامح المطلق، تجمع التاريخ مع المستقبل . إنها تجربة يحب أن يراها الآخرون في كل مكان. أنها أنموذج جميل إزاء الكثير من نماذج التطرف والعنف التي نعرفها.
ولكن ما يجب أن نفكر فيه أننا في سباقنا مع التمدن والتغريب ننسى أحياناً الكثير من القضايا التي يجب أن نتعامل معها بكل حذر كونها قضايا لا تمسنا في حياتنا فقط ولكنها تمس حياة أجيالنا القادمة. أننا نؤسس الآن لمرحلة تاريخية جديدة سوف تكون الانطلاقة لأجيال المستقبل.
فإذا لم تكن الأرضية صالحة فلن تكون انطلاقتهم كذلك. قضايا الهوية واللغة والعادات الاجتماعية التي تعاني من التغريب وقضية انتماء أجيال قادمة تشب في مجتمع لا تعرف أهو عربي الهوى والثقافة أم عالمي ومتنوع الثقافات.
الإمارات كلها تنتفض. فكل ما يحدث في إمارة من الإمارات السبع يؤثر بالتأكيد على مستقبل الإمارات كوطن وتاريخ. فسعي كل إمارة للتطور وتبنى الأفضل هو الذي سوف يترك التأثير الأعمق والأكبر على مستقبل أجيالنا القادمة ويجعلهم يدفعون ضريبة لا نعرف مبلغها.
فعدم وجود خطة وطنية واضحة تأخذ في اعتبارها كل تلك المتغيرات هي التي سوف تدفعنا وتدفع أجيال الغد إلى دفع تلك الضريبة. الضريبة التي سوف نضطر إلى دفعها سوف تكون بالتأكيد باهظة . لماذا؟ لأنها وبكل بساطة ضريبة مضاعفة.
فما هي الإشكالية التي سوف تواجهنا ؟ في الواقع سوف نواجه إشكاليات عدة وليس إشكالية واحدة . فهناك على سبيل المثال لا الحصر، إشكالية ضغط الآخرين علينا الإبقاء، نموذج دولتنا في الانفتاح والتمدن وعدم تغييره.
فرغبة العالم لإبقاء نموذج معتدل في المنطقة في مواجهة موجات التطرف والتزمت والتشدد سوف يؤثر على قدرتنا على التغير الاجتماعي، خاصة وأن هناك تياراً محلياً يوافق هذا الرأي فيرى أنه من صالحنا أن لا نخرج عن الطريق الذي نسير فيه حالياً لآن أي طريق آخر سوف لن نجني منه إلا التزمت والتشدد.
الإشكالية الثانية هي في أننا تعودنا على نمط معين في الحياة وفي الفكر ليس من السهل التراجع عنه أو التفكير في تغييره . ولدينا أسوة ونموذج في دول الربيع العربي التي شهدت تراجع في الحريات العامة وفي معدل التنمية وفي المتغيرات الاجتماعية والانفتاح الاقتصادي وفي السياسيات العامة الأخرى، ونرى ونشعر بعدم الرضا بين شعوبها من جراء هذه المتغيرات.
الإشكالية الثالثة والمهمة هي أننا ما زلنا لا نملك أنموذجاً تنموياً آخر يمكن أن يحل محل أنموذجنا هذا وبالتالي فإن التخلي عن هذه الأنموذج يعني الفوضى والعودة إلى حالة من اللايقين.
إننا مدركون بأننا أمام مرحلة تاريخية مهمة من تطورنا ولكل مرحلة ضريبة يجب أن ندفعها ولكن نتمنى أن لا ندفع أبداً ضريبة التطور من هويتنا وثقافتنا الاجتماعية. إنها الضريبة الأغلى بين جميع الضرائب التي قد تضطر أجيالنا القادمة لدفعها