علي أبو الريش

في العيد يستعيد الناس أفراحهم، ويستدعون ماضياً تولى واندثر، يفتشون عنه في الثنايا والطوايا والسجايا، يخاطبون حاضراً بلغة الماضي، يحاكون واقعاً بأحلام وقت كان الأجمل والأسهل، والأكمل والأنبل، يدلون خصلات ويربتون على خصائل، وتدمع الأعين فرحاً وسروراً وحبوراً، ويتواصلون في الحديث عن حكايات وروايات.. ولكن الأكثر فرحاً، والأكثر مرحاً، هم هؤلاء الذين يحفظون في الصدور مضغاً خضراء يافعة ناصعة ساطعة، يافعة مملوءة بالأمل، والجمل الوردية.
هؤلاء هم الصغار، الذين يحلمون بيوم العيد والعيدية، ويخضبون القلوب بلون البياض، وبلا امتعاض، يواصلون الحديث عن هذا اليوم الذي يزورون فيه الأحباب والأصحاب، رافلين بالثوب الأبيض، معتنقين مشاعر الانشراح في براح العالم المتهدج، المتوهج، المبتهج ذاهبين بعيداً في فضاءات الخيال الغض، والجين عميقاً في مساحات الكون المغرد المتفرد، المبتعد كثيراً وكثيراً جداً عن الاحتقان، وامتحان الكبار الصعب.. هؤلاء الصغار الأطيار يحلقون ويحملقون، ويحدقون ويصفقون، ويرفرفون ويغردون ويزغردون، ويفردون للحياة أجنحة كالظل الرفيف الرهيف الخفيف الأليف، ويُسعدون الكبار بالابتسامة الشفيفة، الأشف من ماء البَرَدْ.
هؤلاء الذين تكون العيدية بالنسبة لهم، لعبة القفز على حبال الأرجوحة، المتمايلة المتخايلة، المتمهلة القائلة للناس أجمعين: هذا يوم النسيان، نسيان ما سلف من أحداث، وما غفى وطغى على القلوب.. هؤلاء الصغار عصافير الأزقة المزقزقة، هم اللحظة الفارقة لأيام وأعوام وآلام وأوهام، وإدغام وإبهام، وأسقام وأحلام.
هؤلاء الصغار هم الزمن الحاضر المستحضر لأفكار وأخبار، وأسرار وأطوار وأدوار، هؤلاء هم الذين يكسبون رهان السعادة، ضد كبار غشيتهم غاشية أزمنة ممحنة، وأيام محقونة بأرواء وأهواء وأرزاء، وبلواء وإغواء، وابتداء وانتهاء.. هؤلاء هم الصغار الذين لا بد أن نحدثهم بلغة حاضرهم، ولا نملي عليهم ما سكن في خواطرنا وما استقر في بواطننا، وما أوغرت به صدورنا، وما شحنت به نفوسنا، وما طعنت به قلوبنا، وما شخبت به أرواحنا.
هؤلاء الصغار هم أشجارنا وأنهارنا وبحارنا وجبالنا، وحقولنا وزرعنا وتمرنا وزهرنا، وعودنا الذي يجب أن ننصب عليه أوراقنا الخضراء، وأثمارنا الهيفاء.
هؤلاء هم الصغار الذين يجب أن يكونوا قصيدتنا الجديدة الفريدة، التليدة المجيدة، الأكيدة في صناعة نهارنا وليلنا، ونومنا ويقظتنا، ونعاسنا وصحوتنا، هؤلاء هم الصغار الذين ننيط بهم إشراقة الغد، ولباقة العهد، وأناقة الوعد، وأناقة السد.

– الاتحاد