ياسر حارب
عندما كنتُ طالباً في الجامعة ذهبتُ إلى أحد المختصين في التطوير الذاتي ليساعدني على إلقاء الخُطب العامة في المناسبات؛ حيث كنتُ حريصاً على تمثيل الدولة في مختلف المحافل.
وعندما بدأنا الحوار سألني عن مشكلتي، فقلتُ له بأنني أشعر بتوتر عندما أقفُ للتحدث أمـام الجمهـور، فقـال لي: “تخيل أنك تصعد الآن خشبة المسرح لتلقي كلمـة، بماذا تشعر؟” فقلتُ له إنني أشعر بالارتباك، ثم قـال: “أنت الآن واقـفٌ وستبدأ الحديث، مـاذا يـدور فـي خاطـرك؟” فقلتُ له أننـي خائفٌ من أن أقول شيئاً خطأً.
فقال لي: “لقد أخطأتَ الآن، بماذا تشعر؟” فقلتُ له بالارتباك، فسألني: “وبعد الارتباك؟” فقلتُ إنني مُحـرجٌ الآن جداً أمام الناس، فسألني: “وماذا بعد الإحراج؟” ظللـتُ أفـكر في سؤاله لأنـه لم يخطـر على بالي من قبل، فقلتُ له: “لا شـيء!”.
ابتسـم وقـال: “فعلاً، لا شيء.. الحياة لن تتوقف إن أخفقنا، ولن يتصدر خطؤك الصفحات الرئيسية أو نشرات الأخبار، بل إنني أشـك بأن أحـداً من الحضور سينتبه له. أنتَ تحب هذا العمل، ولكن خـوفك طغـى على ذلك الحب. انتهى الأمر، يمكنك أن تنصرف الآن”.
خرجتُ من عنده وأنا أفكّر، إلى هذه اللحظة، في مدى سذاجة الإنسان عندما لا تتعدى رؤيته حدود ضعفه، متناسياً أن قدراته لا حدود لها. وكلما همّني أمرٌ وتوقفتُ عند نتائجه السلبية، أو عند عدم استطاعتي تخطيه، تذكرتُ كلامه “الحياة لن تتوقف إن أخفقنا”.
وقبـل عدة سنوات حضرتُ دورة تدريبية لتنمية القدرات الفردية، وخلال أسبوع كاملٍ قضيته مع مدربة امتلأ رأسها بالشعر الأبيض والحكمة، تعلمـتُ منها أشياء كثيرة كان أهمها أنها عرفتني على نفسـي لأول مـرة، وأظـهرت لي كل الأشياء الدفينة التي كنت أتحاشاها دون أن أشعر. إلا أنها لم تقف على نقاط ضعفي كثيراً، بل ساعدتني على التعرف على مكامن القوة فيّ وكيف يمكنني أن استثمرها لتطوير ذاتي.
وفي آخر يوم قالت لي: “إن معظم الناس يبحثون عن نقاط ضعفهم لتقويتها، ومع مرور الزمن، ينسون تقوية نقاط قوتهم، حتى يتساوى لديهم الضعف والقوة، ويظل الإنسان عادياً لا يميزه شيء. إن أردتَ أن تتغير، ركز على تقوية نقاط قوتك، وانسَ نقاط ضعفك، لأنها ستتحسن مع الوقت”.
وهذا ما فعلتُه خلال سبع سنوات، حتى وصلتُ إلى نتيجة مفادها أن إحدى مشكلاتنا هي أننا نعرف ضعفنا أكثر من قوتنا، ونتذكر هفواتنا أكثر من نجاحتنا، وندرك ما لا نستيطع فعله، أكثر مما نستطيع، ونعلم الأشياء التي نخفق فيها ونجهل الأشياء التي نتقنها.
أؤمن كثيراً بأهمية تغليب العقل في اتخاذنا لقراراتنا في الحياة، ولكن في المواقف الحرجة فإنني أؤمن أكثر بدور القلب، لأنه البوابة التي تنفذ الطاقة الكونية من خلاله إلينا. فالوجود مليء بالطاقة والنور، إلا أنهما لا يطرقان الأبواب المغلقة. والقلب لا يعرف المجاملة أو النفاق، وحتى حين تجترئ عقولنا أسوأ الكذبات، تُحدثنا قلوبنا بأننا على خطأ. ومن يتقن لغة قلبه لا يمكنه أن يكون على خطأ.
يقول المختصون في التطوير الذاتي إننا لسنا الأسماء التي نحملها، ولا المنازل التي نسكنها، ولا الأموال التي نملكها، ولا المناصب التي نتقلدها. قد تصفنا هذه الأشياء ولكنها لا تصنعنا؛ فهي ليست حقيقتنا.
نحن أكبر بكثير من هذه الصفات السطحية، وأرواحنا أكثر عمقا من حاجات الحياة وأشيائها. تقول الحكمة: “لا يوجد إنسان ضعيف، ولكن يوجد من لا يعرف مكامن قوته” والأسوأ منه من ينسى أن يبحث عنها.
عندما لا نعرف أنفسنا جيدا فإننا نعجز عن تنميتها وتطويرها، ولذلك فإنها تكون هشة أمام أبسط تحديات الحياة التي تواجهها، فالجاهل بنفسه، الغريب عنها، لا يقدّرها حق قدرها، ولذلك فإنه يجهل كيف يساعدها للخروج من أزماتها.
أما الناجحون فهم من يوقنون بأنهم يستحقون النجاح؛ وهذه الفكرة كافية لتدفع بطاقاتهم الداخلية إلى حدها الأقصى. إن من يعرف نفسه حق المعرفة لن يضطر للتمثيل أمام الناس، ولن يلبس أقنعة ليخفي عيوبه، فهو يدرك أن أجمل حالات الإنسان حينما يكون على سجيته، مضطربا كان أم مستقراً، حزيناً أم سعيداً، ضعيفاً أم قوياً. فالناس لا تحب من يلبس الأقنعة؛ لأنه حينها لا يكون إنساناً، أو حتى شيئاً.
البيان