د خالد الخاجة

قامت الدنيا وحق لها أن تقوم، واستنفر كل غيور على دينه ومحب للمصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي خاطبه ربه قائلا “ورفعنا لك ذكرك”، في مواجهة نفر لا ذكر لهم ولا غاية إلا زرع الكراهية وتأجيج المشاعر، وبث الفرقة بين الشعوب بعضها البعض وبين أبناء الوطن الواحد، تحت شعار “حرية الفكر”..

ولست أعلم أين هو هذا الفكر الذي يتحدثون عنه! إن هناك بونا شاسعا بين الفكر وبين السفاهة، وبين حرية الفكر وبين زرع الكراهية وتهديد السلم الدولي، عبر الإساءة إلى دين يزيد أتباعه على مليار ونصف المليار من البشر، كما أن تلك التكئة المسماة بالحرية لم تكن يوما مطلقة، حتى فلاسفة الحرية أمثال “فولتير” و”جان جاك روسو” و”ميلتون”، لم يقولوا أبدا بالحرية بلا ضوابط، ولكن حريتك تنتهي عندما يحدث إيذاء للآخرين.

هل من الحرية أن يتحلل الرجل من ملابسه في الطريق العام، أم من العته والجنون؟ وهل من الحرية أن يشعل الرجل النار في منزله الذي هو ملك له، أم نطالب بإيداعه مصحة للأمراض النفسية؟ الفرق كبير بين ذهاب العقل وبين الحرية التي خص الله بها بني البشر، إكراما لهم وتنزيها عن غيرهم من مخلوقاته، لا لتكون المبرر لقيام المرجفين بالتطاول على خير خلق الله.

والحق أن ما طال رسول الله من هذا الفيلم السيئ المسيء، هو جرم مشهود حتى بمنطق الغرب، باعتباره يبث الكراهية بين الشعوب ويشعل الفتنة، وهو ما حدا بألمانيا لمنع ذاك القس المختل “تيري جونز” من دخول أراضيها، معللة ذلك بأن “من يدعو إلى الكراهية بين الشعوب لا مكان له في بلادنا”.

ومما رأيته من عصبية المشهد في الأيام القليلة الماضية كرد فعل على هذا الفيلم المقزز ـ على حد وصف هيلاري كلينتون وزيرة خارجية الولايات المتحدة ـ أود أن أرصد بعض النقاط علنا نستجلي حقيقة المشهد بعد أن ينقشع ذلك الغبار، فإذا ما تم ذلك نستطيع أن نحدد استراتيجية للتعامل مع ذلك التطاول، تجعل اعتراضنا أكثر فاعلية ونتائجه أقوى حسما.

إن هذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها الإسلام ورسوله الكريم لمثل هذه الإساءات، فقد تم ذلك عبر تاريخ ممتد، فخلال الأربعين سنة الماضية تم تأليف ما يقرب من ألف وسبعمئة رواية مسيئة للإسلام، من أولئك النفر الذين حجب الله قلوبهم عن كل نور سماوي، فهؤلاء يكرهون كل ما هو ديني ولا يتوانون عن الإساءة للمسيح نفسه في أعمالهم، بل يذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك، وهؤلاء نتاج التيار الذي نفر من الدين إثر الممارسات التي سلكها رجال الدين في عصور الظلام في الغرب، وهنا أقول “هل بعد الكفر ذنب”!

أقول إن هذه الإساءات ليست الأولى، فمن يتابع يجد أن هناك أفلاما لا تقل في بذاءتها عن هذا الفيلم إن لم يكن أكثر، فلماذا إذا يتم إلقاء الضوء على بعضها في وقت معين دون غيرها؟ إلا إذا كان ذلك من ورائه أهداف محددة يستدرج المسلمون في كل مرة إلى فخها، ليحققوا لأعدائهم ما يريدون دون بذل جهد منهم، على غرار “بيدي لا بيد عمرو”، ويتم استفزاز المسلمين في كل مكان، والتقاط الجوانب العصبية منها لتأكيد الصورة النمطية السيئة عن أتباع هذا الدين؟

والشاهد تلك الإعلانات التي انتشرت في محطات المترو في نيويورك، تربط بين الإسلام والإرهاب، وتقول “ساندوا إسرائيل للوقوف ضد الهمجية”، فضلا عن إحداث حالة من الشقاق داخل نسيج الوطن الواحد من أبناء الديانات المختلفة، لتكون ذريعة للتدخل في شؤون الأوطان أو إعلاء الصوت بدعاوى اضطهاد الأقليات، وهو أحد أخطر الأبواب لتفتيت الأوطان.

إن ردود أفعال المسلمين ضد الإساءة للنبي الكريم، ينبغي أن تلتزم بهدي النبي وفقه سيرته في التعامل مع من آذوه في الطائف وأدموا قدميه الشريفتين، ودعا ربه محتميا به، فنادى منادٍ “إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملكَ الجبال قائلا إن شئت أطْبَقْتُ عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخرِجَ الله من أصلابهم مَنْ يعبد الله وحده”.

وعندي أن الفيلم المسيء ليس فقط ذاك الفيلم الذي اعتذرت “سيندي لاغارسيا” عن الاشتراك فيه، ولكنه أيضا الفيلم الذي صنعه بعض المسلمين بردود أفعال لا تعبر عن وعي حقيقي بسيرة الرسول الكريم، الذي كان يقول له اليهود في المدينة “السام عليكم” أي الموت والهلاك، فيقول “وعليكم”، فترد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها “وعليكم اللعنة”، فيقول النبي: “يا عائشة ليس المؤمن بطعان ولا لعّان ولا فاحش ولا بذيء”.

لذا فمن المعلوم يقينا أن قتل السفير الأميركي في ليبيا واقتحام السفارات في اليمن وتونس ومصر ليس من الإسلام، بل حمايتهم وسفاراتهم والعاملين معهم، هو من أصل هذا الدين، باعتبارهم في عهدنا وحمايتنا، “ولا تزر وازرة وزر أخرى”. كذلك لا ينبغي اعتبار الغرب كله ضد الإسلام، فالغرب ذاته مليء بالأصوات العاقلة التي ترفض الإساءة للدين باسم الحرية.

ثم إن هذه الردود الانفعالية، والتي ضاع في خضم الكثير منها صوت الحكمة، تجعل كل مغمور لا قيمة له يسعى إلى الشهرة يسير في نفس الطريق، وهو ما فعله سلمان رشدي بآياته الشيطانية من قبل، وما دفع الصحيفة الفرنسية لنشر الكاريكاتير المسيء، وهو ذات الطريق الذي سيسير فيه الكثيرون من بعدهم.

ولأن الله عز وجل حافظ لهذا الدين ورسوله الكريم حين قال “إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ”، ولأن الله “ينصر هذا الدين بالبر والفاجر”، فلا عجب أن تتحول هذه المحنة البشرية إلى منحة ربانية، حيث جاءت الأخبار تترى عن انتعاش مبيعات الكتب الإسلامية في بريطانيا منذ أن بدأت أزمة الفيلم المسيء للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وما تلاه من احتجاجات في العالم العربي، ما بين 20 و30%، مقارنة بما كانت عليه خلال الشهور الماضية، وأن أعداداً أكبر من البريطانيين باتوا يسألون أكثر عن الكتب المتضمنة تعريفاً بالدين الإسلامي، وترجمات للقرآن الكريم في بلد يندر فيه الطلب على الكتب الدينية.

إن أبلغ صور الرد عندي، أن يكون هذا الفيلم المسيء نقطة البداية لإطلاق حملات عالمية للتعريف بهذا الدين وبنبيه الكريم، عبر شتى الوسائل والأشكال، فضلا عن الضغط وبقوة لإصدار قانون من الأمم المتحدة يجرم الإساءة إلى الأديان السماوية، لكي لا نقع في الفخ ثانية.