كانوا حولنا طوال النهار، أهلنا أقاربنا والجيران، الأحاديث والوصايا، والإنذارات والحكايا كانت تدور في آذاننا وأذهاننا أنّا رحنا أو ذهبنا.. خوفنا ومقتنا لحالة الوصاية الدائمة تلك، لم يكن يقارن بحالة الأمان والاطمئنان التي كنا نشعر بها ونحن نراقب أنفسنا تنتقل من حفظ إلى حفظ ومن أمان إلى أمان. عند الملمات كنا نشعر بتلك النعمة أكثر، عند الرعد والمطر، عندما يجمعنا حوله الأب أو الأم أو الجدة.
وتنهمر الحكايا عن أيام مشابهة كثيرة مرت بهم، لم يأخذهم الوادي ولا أحرقتهم الصواعق، و”عشنا الحمد لله” التي كانوا يرددونها، في المخاوف الأكبر؛ في الحروب والمآسي التي مرت قريبا منا.. كان الاطمئنان يسكنهم وهم يرددون علينا كلماتهم الملأى باليقين والثبات والإيمان؛ لا تخافوا ولا تخشوا شيئا، فالحفظ من الله، ولقد رأينا الحرب والخلاف والشدة والفقر، وكان الله في عوننا دائما، وكان تكاتفنا وتعاوننا وتراحمنا وصبرنا، جسر المرور إلى الراحة والطمأنينة والسلام، وستمضي هذه الشدة أيضا.
حديث الكبار، حديث الأمان، حديث الأيام، يحتاجه الناس في الشدة دائما، يبحثون عن الوجوه، يسألون عن الشخوص أين هم، ليقولوا شيئا ينزل على القلوب بردا وسلاما؟
الحكماء على مر الزمن، كانوا يقومون بدورهم الذي هيأهم الله له في حياة الناس، ولعل أشهرهم لقمان الذي ورد ذكره في القرآن الكريم وهو ينصح ابنه مستفتحا كل نصيحة بـ”يا بُني” لينسكب حنانها على ما يأتي من حديث بعدها. “يا بني” كم يحتاجها أبناؤنا اليوم، وهم يتخبطون بين سيل الأخبار والتحليلات والأحاديث التي تملأ الدنيا حولهم وتتسلل إلى رؤوسهم مهما أشاحوا عنها.
ورد في الحديث الشريف {لم يكن لقمان نبيا، ولكن كان عبدا كثير التفكير، حسن اليقين، أحب الله فأحبه، فمنّ الله عليه بالحكمة}، ثم خلد اسمه ووصاياه في القرآن، وسميت سورة كاملة باسمه، أليس في ذلك رفع لمكانة الحكماء والعقلاء ودورهم في المجتمع؟ ألا يدل ذلك على بداهة وجودهم ثم أهمية دورهم، فأين هم اليوم؟
مجتمعنا كان آية في التراحم، والنصح المجاني كان يتبع الفرد في كل مراحل حياته، وكثيرا ما كان الرجل يتعنى ويزور أخاه، ليهديه نصيحة بشأن حياته أو عمله أو صحته، أو ربما ترصده في الدرب أو المسجد ووهبه من وقته الكثير، لا يدفعه إلى ذلك إلا الرغبة في عمل الخير. لم يكن في مشورتهم حقد ولا حسد ولا توجس ولا كبر، ولم يكونوا يطلبون من وراء ذلك جزاء ولا شكورا، يقولون رأيهم ويذهبون، فهل خلت الحياة من أمثالهم؟
الحياة تغيرت، لا ينكر ذلك إلا جاهل، ولكن الخير موجود على الدوام مهما كثر الشر، والقيامة لم تقم بعد، لتجد كل امرئ يقول: نفسي.. نفسي، وليته وعى أن نفسه إنما هي كل هذه النفوس، وأن الفرد في المجتمع بأهله وذويه ومواطنيه. فكر الآن وأنت تقرأ المقال أن تكون لك كلمة خير، نصيحة، كلام من القلب للقلب، لكل من يفتح حديث الضيق والخوف والتشاؤم أمامك، جمل حديثك بالحنان، املأه بالبشرى، وزينه باللين واللطف. أبناؤنا، إخوتنا، أصدقاؤنا بحاجة إلى ذلك، ليتذكروا دائما أن الخير موجود، وأننا كنا وسنبقى على هذه الأرض، أهل حكمة وخير وعطاء.
– البيان