د خالد الخاجة

في عصر تفتحت سماواته، وتكسرت جدرانه، وبات من الصعوبة التحكم في ما يعرض أو يذاع، ولأن ما يتابعه الطفل العربي لم يعد قاصرا على شاشاته المحلية بل اتسعت الشاشة بحجم المضمون الإقليمي إن لم يكن قد تعداه إلى المضمون المعولم، لذا فقد استوقفني أحد الإعلانات المذاعة في فضائية عربية.

والذي يروج لنوع من الحليب، وفيه تجيئ الأم لأطفالها، الجالسين في غرفة المعيشة وهم يلعبون والبسمة تعلو وجوهم، لتقول بصوت فيه كثير من التهديد، ذكرني بصوت الساحرة العجوز التي كنا لا ننام الليل بعد مشاهدتها، “من لم يشرب الحليب سآتي له بالعفريت”. و لقد أفزعني مضمون الإعلان، ومن أتى بهذه الفكرة الإعلانية الغريبة للترويج لمنتج، عبر إثارة الرعب والفزع، لا عبر الترغيب وتوضيح المزايا التي تجعل الطفل يقبل على شرب الحليب حبا فيه واستمتاعا بمذاقه، بات هناك من يهدده بشرب الحليب خوفا من العفريت.

إنني أعتقد أن صاحب هذه الفكرة لديه رواسب نفسية عانى منها صغيرا جعلته يلجأ إلى هذا الإسقاط على غيره، ثم كيف نتخيل صورة الطفل الذي يشرب كوبا من الحليب والرعب يحيطه خوفا من ذاك العفريت الذي رآه وشاهد صورته في الإعلان؟

وإذا قال البعض أنها مجرد مزحة للتسويق غير واقعية وغير حقيقية، أقول أن المشكلة هنا أكثر تعقيدا، فإذا كانت الأم غير قادرة على إحضار ذاك العفريت الذي هددت به أطفالها، وهي بالفعل لن تستطيع، إذن نحن نكذب على أولادنا ونعلمهم إياه منذ نعومة أظفارهم، من ناحية أخرى فإن الدراسات الخاصة بمراحل النمو والخصائص النفسية والعقلية لكل مرحلة تؤكد أن الطفل في مراحله السنية الأولى لا يستطيع أن يميز بين الحقيقة والخيال فيما يشاهده عبر التليفزيون وآية ذلك الحوادث المؤثرة.

حين نجد طفلا يقذف بنفسه من النافذة مقلدا الرجل الوطواط واعتقادا أن لن يلحق به أذى كما شاهد ذلك، وتلك الطفلة التي ألقت بكيس من البطاطس من النافذة وقالت لأخيها الصغير الحق به وأعده كما يفعل سوبرمان والأمثلة على ذلك كثيرة.

وفي تقديري أن هذا هو أكبر أشكال فقر الفكر لدى صانع الرسالة الذي استعصت عليه ابتكار أفكار إعلانية متميزة، وعجز عن إيجاد الحجج المؤثرة التي تجعل الطفل يقبل على شرب الحليب، فلما ضاقت به الحيل لجأ إلى التهديد عبر استحضار العفاريت وإدخال الرعب في نفوس الغير. وبعد أن كنا نرى الأطفال في الإعلانات يشربون الحليب وهم يبتسمون وسعداء، وقليل منه تعلو شفاهم البسمة، سوف نرى من يشرب الحليب تحت ضغط التهديد والوعيد والخوف من العفاريت.

وعندي أيضا أن صانع هذه الفكرة الإعلانية الغريبة اتبع منطق الغاية تبرر الوسيلة، وهي هنا بيع المنتج مهما كانت الوسيلة المتبعة لهذا وتداعياتها النفسية لدى الطفل، ثم لنتخيل لو أن هذا الطفل نسي يوما أن يشرب هذا الحليب، وقام من نومه فزعا خوفا من أن يظهر له العفريت المزعوم الذي يحضر لمن لا يشرب الحليب.

المنطق الثاني لصانع الرسالة هو الرغبة في التميز بفكرة جديدة تجعل الآخرين يتحدثون عنها ولو بالسوء، وهو منطق غير سوي ومريض، كمن يبحث عن الشهرة فيقوم بارتكاب جريمة لتنشر صورته في الصحف والمجلات وهو ذات منطق العجزة وقليلي الحيلة. والاعلان هو أحد أهم مجالات ابتكار الحيل و الأفكار الجديدة.

الخطورة تأتي من تأكيد العديد من الدراسات أن الإعلان من أهم المواد الإعلامية التي تلقى إقبالا في المشاهدة بالنسبة لصغار السن، ويأتي في ترتيب المشاهدة سابقا لغيره، كما والشاهد أن أغلب المضامين الإعلانية التي يشاهدها الأطفال يحفظونها ويتغنون بها.

كما أن مضمون الرسالة الإعلانية مضمون تعليمي يستقي منه الطفل الكثير من الأفكار ويكتسب أيضا سلوكيات، ومن الجائز أن أذهب إلى أبعد من هذا لأؤكد ان إعلانا تليفزيونيا قد يفوق في تأثيره أعمالا درامية ممتدة وبرامج عديدة تعرض للأطفال، لأن التكرار المستمر له خلال فترات زمنية متقاربة يرسخ فكرته.

ومن المؤكد أن الطفل بعد فترة يتذكر المضمون دون أن يعرف من أي المصادر قد جاءه. غير أن البعض منا يتعامل معه على أنه مضمون ثانوي يذاع في ثنايا الدراما أو قبل وبعد البرامج، والبعض الآخر من صناع الرسالة الإعلانية يتعاملون معه بمنطق اقتصادي يقاس به نجاحه بمقدارعدد الوحدات التي تم تسويقها من خلاله دون النظر إلى الاعتبارات الاجتماعية والتثقيفية والنفسية لرسالته، وتلك مشكلة أخرى.

ثم هل من الجائز أن نشيع بين أطفالنا، في هذه السن المبكرة، ونكرس في أذهانهم ثقافة الجن والعفاريت ونستخدمها في الضغط عليهم لتناول منتجات دون أخرى ويكون لسان حالهم النفسي نشربه خائفين لا محبين.

ثم على الجانب الآخر أن هذا النمط الإعلاني، وهو البيع عبر الرعب والتخويف وبخاصة للأطفال، قد يأتي بنتائج عكسية على المنتج نفسه حين يتجنب الكثير من الآباء أن يشاهد أولادهم هذا الإعلان فيقومون بتغيير المحطة، وبالتالي فإن الرسالة المطلوبة لم تصل، ويصبح هناك هدر إنفاقي لا عائد من ورائه، أو أن يربط الأطفال بين هذا النوع من الحليب وبين العفريت فيتجنبوا مجرد رؤية المنتج لا الصبر على شربه وبخاصة أن كثيرا من المنتجات التي يقبل عليها أطفال تنشأ بينهم وبينها علاقة ارتباط وتعلق قد تكون عبر الصورة أو الأغنية أو خصائص المنتج ذاته.

وهنا أذهب إلى ناحية أخرى وهي أنه لابد من تفعيل ميثاق شرف الإعلان بدون شك، حيث يجب أن تكون هناك ضوابط للمضمون المقدم للطفل، وما يجاز للجمهور العادي قد نتوقف عنده كثيرا حينما نقدمه للطفل، كما أن استثمار المال والرغبة في العائد الإعلاني للقنوات التليفزيونية لا يجب أن يكون المبرر لقبول مضامين إعلانية ضررها أكثر من نفعها، فلا خير في خير بعده شر، لأن الإعلام كما أنه صناعة ثقيلة تحتاج إلى موارد مالية ضخمة فهو كذلك رسالة تعلم وتوجه وتثقف وتقنع عبر المنطق الحجة وعبر الكلمة المنتقاة والموسيقى المؤثرة لا من خلال الرعب وإثارة الفزع.

– البيان