نتحدث كثيراً عن الصفات الواجب توافرها في القيادة الحقة، وأهم صفة من تلك الصفات هي القدرة على الإبداع، وبمعنى آخر؛ الخيال الخصب والذي لا يعني البعد عن معطيات الواقع، ولكن يعني التعامل مع الواقع بعيداً عن البدائل المطروحة، عبر ابتكار آليات جديدة تفاجئ بها من حولها، وتحل بها أكثر الأمور تعقيداً بعد أن تعز الحلول.
وينظر الناس حولهم لمن له القدرة على التعامل مع ما هم فيه بسرعة وابتكار، أو ما يمكن أن نطلق عليه القدرة على مقابلة الكرة في منافسات تنس الطاولة، بسرعة ورشاقة وفي مكان غير متوقع للمنافس.
أقول هذا بعد أن توقفت، كما الكثيرون غيري من مواطنين ومقيمين، متأملاً الرسالة التي بعث بها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، لتهنئة المواطنين من أبناء الإمارات والمقيمين باليوم الوطني للدولة، ذاكراً ومذكراً بالمؤسسين في هذا اليوم ودورهم الخالد في بناء الدولة التي صارت اليوم نموذجاً يسعى غيرنا إلى الاحتذاء به.
والحقيقة أن هذه الرسالة بكلماتها التي تحمل دلالات محددة، من يدركها يدرك طبيعة القيادة في دولتنا، وكذلك حقيقة العلاقة بين القيادة والشعب وأدواتها وآليات التعامل بينهم.
وهنا أعتقد أنه لا يمكن أن يكون هناك نظام سياسي يمكن تطبيقه على كل المجتمعات، ولكن تمايز المنظومة المجتمعية وما تحويه من قيم لا يستطيع أن يدركها إلا من يعيش على رمالها وبين نخيلها.
في يقيني أن هذه الرسالة قد نزلت بسعادة غامرة تصحبها دهشة، لأنها حملت الكثير مما جعل صداها لم يتوقف حتى الآن، ومادة للحديث بين أبناء الوطن والمقيمين فيه، عن القيادة التي استطاعت أن تمتلك قلوب أبناء شعبها عبر الود والحب.
قد يسعد موظف إذا تذكره صديقه بمكالمة تليفونية، وقد تتضاعف سعادته إذا أرسل إليه مديره في العمل بطاقة معايدة أو دعوة، ويتباهى بذلك بين أقرانه وفي محيط أسرته..
أما أن يفاجأ المواطن برسالة من نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء، فتلك تتجاوز مضمونها لتعبر عن واقع نظام سياسي ونهج في الحكم، أعتقد أن الإمارات أرست قواعده منذ زمن طويل، تلك القواعد التي لم ينظّر لها السياسيون في كتب النظم السياسية ولم تدرس في قاعات المحاضرات، وهي نظرية «القيادة بالحب»، التي جعلت من المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان أباً لأبناء شعبه، وعلى الدرب سار الخلف.
وأعتقد أنها المرة الأولى على وجه الأرض، التي ترسل فيها قيادة سياسية لشعبها رسالة تهنئة على هواتفهم الشخصية، غير أنه ليس بجديد على صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، وهو من المعدودين على مستوى العالم الذين يتواصلون بشعوبهم عبر استخدام وسائل التواصل.
يقص عليّ صديق من بلد شقيق أنه لما حصل على درجة الدكتوراه، منذ ثلاثة عشر عاماً، أرسل إليه رئيس الجامعة رسالة تهنئة، فقام بوضعها في صدر مجلسه حتى اليوم، فهنيئاً لكم والقيادة ترسل لكل مواطن ومقيم رسالة تهنئة عبر الهاتف. قلت له: وهذه الرسالة سنضعها في حنايا القلب قبل المجالس.
ومما يتطلب التوقف أيضاً، أن هذه الرسالة امتازت بالتواصل الشخصي، مما يشعرك بهذه الحالة الحميمية، بأنه المعني بها شخصياً، رغم أنه كان من الممكن أن يتم توجيهها عبر شاشات التلفزيون أو محطات الإذاعة، وهو المتبع في المناسبات الوطنية عند معظم القادة في مختلف دول العالم.
وأود هنا أن يتخيل كل منا الحديث الذي دار في بيوتنا جمعياً، والبسمة تعلو الشفاه وكل يخبر من حوله أنه تلقى رسالة من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد للتهنئة باليوم الوطني، ظاناً أنه صاحب السبق في ذلك، وما تبعه من حديث حول قيمة الوطن والقيادة أجرت الدماء في عروقنا.
فضلاً عن ذلك، أن هذه الرسالة لم يختص بها المواطن دون الوافد والمقيم بل شملت الجميع، وفي هذا رسالة لا يمكن أن يخطئها من يعرف كيف يعامل المقيمون على أرض الإمارات، وما يلقونه من رعاية وعدم انتقاص من حقوقهم أو النيل منها، مما جعل وطننا من أكثر بقاع الأرض جذباً للبشر.
إن هذه الرسالة الكريمة تحمل في ثناياها حكمة بالغة للأجيال الشابة، والتي نشأت في ظلال شجرة الاتحاد، مفادها أن «عضوا على اتحاد دولتكم بالنواجذ»، لأن فيه النجاة وبه ينعم أبناء الإمارات في ظل تحديات محيطة وأمواج متلاطمة، تحتاج منا أن نقدم مصلحة الوطن قبل كل مصلحة.
ثم إنها رسالة العرفان والوفاء لأصحاب الفضل من المؤسسين، وفي ذلك قيمة كبيرة يجب أن يتعلمها أبناؤنا، وهي أن من قدم لوطنه الخير من قادته، قد يذهب عن دنيانا ولكن شعبه لا ينساه؛ زايد الخير وصحبه راشد بن سعيد وإخوانهما شيوخ الإمارات الذين توفاهم الله.
إن هذه الرسالة درس لكل صاحب مسؤولية ومدير دائرة، في معرفة كيف تكون القيادة التي لا تعني أبداً الاستعلاء على الناس والحديث إليهم من برج عال بحكم المنصب، إنها تعطي درساً في أن القيادة الحقة تعني أن تشعر من ترعاهم بحكم مسؤوليتك أنك واحد منهم، تفرح لفرحهم وتحزن لحزنهم، تستشعر أوجاعهم وتسعى لتطبيبها.
إن كل مسؤول يجب أن يتخذ من هذه الرسالة بداية لأسلوب جديد للتعامل مع مرؤوسيه، لأنه بذلك يستخرج أفضل ما عندهم. ولأننا نقول إن الإمارات نموذج، فإنني أعتقد أن هذا الأسلوب في التواصل الفريد سيسعى غيرنا إلى الأخذ به، وفي هذا خير لأن من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها.
ولأن النعمة تدوم بشكرها، فإننا نحمد الله أن وهب لهذا الوطن عبر مسيرته رجالاً أحبوا شعبهم، للحد الذي يرسلون إليهم رسائل تهنئة على هواتفهم النقالة، في الوقت الذي يرسل فيه قادة إلى شعوبهم طائرات محملة بالقذائف والمتفجرات ليزيدوا أوجاعهم ويضاعفوا حسراتهم.
ولأن التحية يجب أن ترد بمثلها، فإننا نؤكد لقيادتنا أننا على الدرب سائرون وبالعهد متمسكون.. حفظ الله لنا دولتنا رغم الحاقدين والمتربصين ورغم كيد الكائدين، لأن وطننا يستحق منا أن نصونه ونهلك دونه.
– البيان