د خالد الخاجة
على الرغم من أن العولمة بأدواتها، وانفتاح السموات، وتكسر الجدران بين الدول بعضها البعض، ولم يعد من الصعوبة بمكان معرفة الكثير عن مختلف الشعوب بعاداتها وتقاليدها في الحال والترحال، بعد أن أصبحت لدينا نوافذ إلكترونية كثيرة نستطيع أن نطل منها على ما حولنا من أقصى الأرض إلى أقصاها، أقول على الرغم من ذلك إلا أن حقيقة المعرفة يتم كمالها وجلالها من الفهم والاستيعاب والتفحص، عبر التجربة الشخصية والتواصل الإنساني الذي يتيح لك الرؤية عن قرب، فمن رأى ليس كمن سمع، ومن رأى عن كثب ليس كمن رأى عن بعد، لذا كانت وجهتي هذه المرة في بضعة أيام نستلها وصغارنا من بين زحام الحياة وضجيجها، إلى كوريا.
دفعني إلى ذلك أن التجربة الكورية في التحول ووضع عربة الحداثة على الطريق الصحيح، تتجاوز الخمسين عاما بقليل، حيث كانوا قبلها يفقدون كل شيء، وبعد الاستعمار الياباني لهم، الذي استمر خمسة وثلاثين عاما، اندلعت حرب مدمرة لم يكن لهم آنذاك أمل غير أن تهب لهم الحياة يوما جديدا، عساهم أن يجدوا فيه ما يسد آلام الجوع، وأن لا يكون ميراث من بعدهم الحرمان، في بلد لا يوجد حينها على ظهر الأرض من هو أفقر منه.
ولأنهم حلموا بغد أفضل لأبنائهم، لم يتركوا بلادهم وصمدوا للعمل في مناجم شديدة الحرارة على عمق يزيد عن الألف متر، لتبدأ رحلة الصعود.
ورغم أن طريق نهضة كوريا لم يكن ممهدا، إلا أن الصبر على وعورته ممزوجة بالرغبة الشديدة في النهوض – في بلد تشغل الجبال 80% من مساحته ويعاني من فقر شديد في التربة وندرة في الموارد الطبيعية – واعتبار أن ذلك مسألة متعلقة بكرامة المواطن الكوري، الذي يربى منذ صغره على الدأب في التحصيل، وأنه السبيل الأوحد للنهضة والتميز، للحد الذي يدرس فيه الطالب قبل المرحلة الثانوية، خمسة أيام على مدار الأسبوع من الساعة السادسة صباحا حتى العاشرة مساء، وفي اليوم السادس من السادسة صباحا حتى الثانية عشرة ظهرا، وليس لديه غير يوم إجازة واحد، وغالبية الطلبة يذهبون إلى معاهد تعليمية خاصة، والتي تقوم بدور كبير في التعليم في كوريا، لتحصيل المزيد من العلوم، وكأنهم يسابقون الأيام.
وهذه الحالة من الرغبة في الإنجاز والعمل المستمر والسريع، التي ينشأ عليها الشباب، تصاحبهم في كبرهم وتصبح جزءا أصيلا من شخصيتهم، فيصل بهم الحال إلى أن يصبح العمل مكونا رئيسا وأساسا يقبلون عليه، وكأنه هوى تهواه النفس وتشتهيه كما تهوى التنزه والسفر. لذا كان من الطبيعي أن يتمتع المعلمون في المراحل الدراسية الأولى والباحثون وأساتذة الجامعات، بميزات تفوق غيرهم ومخصصاتهم هي الأعلى.
كما تطور التعليم بشكل متلاحق، مما جعل كوريا تحتل المرتبة الأولى عالميا في حوسبة المناهج التعليمية، كما أنها الدولة الأولى في العالم في صناعات السفن، وانتشار الحواسب الشخصية، وفي خدمة الاتصالات ذات السرعة الفائقة، والثانية في إنتاج الهواتف المتحركة، والخامسة في العالم في استخدام الطاقة النووية وفي إنتاج الحديد الصلب والسيارات.
اللغة الكورية هي اللغة السائدة في التعليم وفي الحياة اليومية، وقليل منهم من يتحدث الإنجليزية، وهذا أحد أسباب ندرة السياحة العربية إلى كوريا، وكذلك اصطحابي لمترجم – تخرج من إدارة الأعمال في أمريكا، لكنه فضل أن يعمل في السياحة لأنها أكثر ربحا – كما أنهم شعب ودود يحترم الآخرين، ورغم انشغالهم طوال الوقت فإنه شعب مبتسم ومنظم رغم الزحام.
ولأن الكوريين حريصون على الاستفادة من كل جزء من بلادهم، سواء فوق الأرض أو تحت الأرض، ولأن المناخ في أغلب الشهور قارس البرودة ودرجات الحرارة تصل إلى ما دون الصفر، فقد قاموا بإنشاء سوق تحت الأرض في العاصمة سيئول، بعدد سكانها الذي يتجاوز العشرة ملايين، يربط بين أكبر شارعين لمساحة تزيد على الكيلو متر، مزود بأجهزة تدفئة ويشتمل على مختلف البضائع، ولا بد أن يرتاده الفرد إذا أراد أن ينتقل إلى الضفة الأخرى، وهي فرصة للتسوق.
وهذا شكل مبتكر في بناء الأسواق، وهو ذات السبب الذي جعل من شركات خدمات التوصيل السريع – بما تعنيه الكلمة – والمتعدد ،من الأكثر انتشارا في سيئول، والقائم على استغلال ما وصلت إليه كوريا من تقدم مبهر في مجال تكنولوجيا الاتصال والمعلومات.
واستوقفني جواب المرشد السياحي حين طلبت منه أن يخبرني عن أحدث جهاز للكمبيوتر تم إنتاجه في كوريا، فقال: الأحدث ستجده في دبي، فما يتم إنتاجه حديثا يصل دبي قبل سيئول.
ورغم أن كوريا تعتبر من التنانين الأربعة، وتحتل المرتبة الثانية عشرة اقتصاديا على مستوى العالم، إلا أنها ليست دولة سياحية بامتياز، رغم أن سيئول تضم قصورا شيدت منذ ما يزيد على سبعة قرون، في ظل نظام شديد الصرامة يقترب من تقديس الملك، لذا فإن القصر تم تصميمه بطريقة تجعل الملك مرتفعا يرى الناس ولا يرونه، ولا يقترب منه غير النبلاء، ولا يسمح لغيرهم أن يرفع رأسه ليراه، ولذا لم تكن عامة الشعب يعرفون شكل الملك.
ومن الطرائف أن أحد الجنود تسلل ذات يوم إلى داخل القصر يريد أن يشاهده من الداخل، ولحظه العسر قابله الملك، ولأنه لم يكن يعرفه فظن أنه متسلل مثله ليشاهد القصر من الداخل، فقال له: لا تخبر أحدا عما فعلته في مقابل ألا أخبر أحدا بفعلتك، فقال له – الملك – أوافق بشرط أن تقول شيئا من الشعر، فنظم الجندي أبياتا أعجب بها الملك إعجابا شديدا، فعفى عنه ورفعه إلى درجة النبلاء، و ما زالت جدران القصر تحفظ هذه الرواية، لتحدثنا عن سر من أسرار نهضة شعب رفع الشعر أصحابه.
برج سيئول من المعالم الهامة حيث تستطيع من خلاله مشاهدة معالم العاصمة، ويضم مدخله نماذج لأكبر عشرة أبراج ارتفاعا على مستوى العالم، أسعدني أن يتصدرها “برج خليفة” في دبي، الذي اجلسهم أمام شاشات التلفاز كما أجلسني عرضه المبهر احتفالا بالعام الجديد.
إن تجربة كوريا تستحق مزيدا من الدراسة والتأمل، من كافة الشعوب الراغبة في أن يكون لها موطئ قدم في عالم لم يعد فيه مكان إلا للطامحين إلى تبوؤ المراكز الأولى، وخاصة أنهم استطاعوا تحويل محنهم إلى منح، وبناء دولة حديثة من وسط ركام المعاناة والبؤس والفقر
– البيان