د. محمد حسين اليوسفي
في الكرملين، وعند مبنى مجلس السوفييت الأعلى، قال مرشدنا السياحي مبتسماً بخبث: هذه هي أعلام الجمهوريات الست عشرة المكونة للاتحاد السوفييتي،.
وهي دول مستقلة اتحدت بملء إرادتها، وبإمكانها الانفصال متى شاءت! جرى ذلك الحديث ونحن في صقيع موسكو الذي انخفضت درجاته إلى ما دون الصفر كثيراً، وذلك في فبراير من العام 1976. تذكرت ابتسامة صاحبنا فيما بعد، وأنا أرى هذا الصرح العظيم يتهاوى بعد أقل من عقدين!
كان “المواطنون السوفييت” يشعرون بالفخر والعزة لانتمائهم لهذه الإمبراطورية، فهم كانوا يرون أقمار بلادهم وهي تجوب الفضاء، وأساطيلهم تمخر عباب البحر، وغواصاتهم تنتشر في أعماق كل البحار. لكن هؤلاء المواطنين المنتمين إلى تلك الجمهوريات المتباينة قومياً والبعض منها دينياً، لم يشعروا أبداً بأنهم مواطنون على قدم المساواة مع أشقائهم الكبار “الروس”. ترافق ذلك مع الفشل الاقتصادي الذي عاناه النظام الاشتراكي المركزي، في أواخر أيامه.
وفيما فشل “الاتحاد” بين جمهوريات يفترض فيها أنها دخلته حرة وهي ترفع شعار “يا عمال العالم اتحدوا”، نجح اتحاد آخر ليبني دولة عظيمة اسمها الولايات المتحدة الأميركية، التي جاءت نتيجة انفصال ثلاث عشرة مستعمرة في العام 1776 عن التاج البريطاني، وإعلانها دولة مستقلة اتحادية.
وما تبع ذلك من حرب تحرير شعواء استمرت لخمس سنوات. ثم إن هذا الاتحاد الحر هب مدافعاً عن وحدته حينما أعلنت الانفصال مجموعة من ولايات الجنوب، التي كانت تستخدم العبيد في الزراعة، لتنشب حرب ضروس (1861 1865) بقيادة إبراهام لنكولن، محرر العبيد. حافظت الولايات المتحدة الأميركية على وحدتها، أولاً بالقسر وتالياً بالرضا والقبول، لأن هذا الاتحاد جاء بالخير والرفاه، ثم بالعظمة والسؤدد لمواطنيه الذين جاؤوا من شتى بقاع أوروبا.
أما الاتحادان الألماني والإيطالي فقد ولدا بقوة السلاح في العام 1870، الأول بقيادة بسمارك والثاني تزعمه غاريبالدي، وتشكلا انطلاقاً من الفكرة القومية التي أساسها وحدة اللغة والتاريخ المشترك.
وحاول هتلر في الحرب العالمية الثانية، ضم الأقاليم التي اعتقد أنها الامتداد الطبيعي للرايخ الألماني، مثل النمسا وتشيكوسلوفاكيا وشمال بولندا وأجزاء من أوكرانيا، إلا أن ألمانيا فقدت تلك الأقاليم بعد هزيمتها، بل فقدت وحدتها هي ذاتها، لتتحول إلى دولتين تنتميان إلى معسكرين متناحرين، وانشطرت عاصمة الرايخ برلين إلى شطرين يفصلهما جدار ضخم.
ولم تفعل معاول الهدم فيه فعلها إلا بعد أربعة عقود من بنائه، حينما أفلحت الجماهير في وضع نهاية لدولة “جمهورية ألمانيا الديمقراطية” في العام 1989. لقد كان تقسيماً اعتباطياً، لكن حينما عاد الفرع إلى الأصل، جادل الكثير من سكان ألمانيا الغربية وما زالوا يجادلون، في حكمة تلك الخطوة، خاصة أنهم يتحملون وزر تطوير الشطر الشرقي، من جيوبهم التي يدفعونها كضرائب!
وكم نغبط شعب سويسرا لما يتمتع به من وداعة وألفة، وهو يتكون من ثلاث قوميات مختلفة، هي الألمانية والفرنسية والإيطالية، وكم كانوا عرضة لحسد جيرانهم الأوروبيين حين كانوا يخوضون حولهم غمار حربين عالميتين أكلتا الأخضر واليابس، وهذا الشعب واقف على الحياد لا يبرح جباله المنيعة.
والعجيب في هذا الاتحاد الضارب جذوره عميقاً في التاريخ (1291)، أنه اتحاد حر بحق، لشعوب ثلاثة تجاورت في منطقة وعرة وسط أوروبا، كانت مناطقها تمثل معابر استراتيجية بين شمال أوروبا وجنوبها، فجمعت المصلحة والتجاور المكاني هذه الشعوب لتكون اتحاداً سياسياً، دون أن تتخلى المجاميع المكونة له عن أصولها القومية أو المذهبية. بمعنى آخر؛ إن وحدة اللغة ليست شرطاً ضرورياً لقيام الوحدة.
وكادت القارة الهندية أن تكون دولة اتحادية واحدة تضم ملايين الناس، تجمعهم ثقافة مشتركة مع اختلاف شديد في عناصرها المكونة؛ كاللغة والدين والعادات والتقاليد، إلا إن دعوات المهاتما غاندي ذهبت أدراج الرياح، أمام إصرار علي جناح على إحداث دولة تضم المسلمين، الأمر الذي أدى إلى تقسيم الهند إلي دولتين مع استقلالها في العام 1947.
ولم تفلح الدولة الإسلامية الباكستانية في الاحتفاظ بوحدتها بين جناحها الشرقي والغربي، فعنصر الدين المشترك فضلاً عن المذهب، لم يمنعا انفصالهما في العام 1971، وتكوين دولة بنغلادش.. ويبدو أن التباعد الجغرافي كان أكثر أثراً في ذلك من عامل الوحدة الدينية