ياسر حارب

سؤال فلسفيٌ مُلتهِبٌ في صدور البشر منذ ما قبل التاريخ. وإجابته السهلة والمباشرة التي يباغتك بها البعض هي الآية الكريمة “وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون” وجاء في تفسير القرطبي: ” قيل: إن هذا خاص فيمن سبق في علم الله أنه يعبده، فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص. والمعنى: وما خلقت أهل السعادة من الجن والإنس إلا ليوحدون. قال القشيري:

والآية دخلها التخصيص على القَطْع، لأن المجانين والصبيان ما أُمروا بالعبادة حتى يُقال أراد منهم العبادة، وقد قال الله تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) ومَن خُلق لجهنم لا يكون ممن خُلق للعبادة، فالآية محمولة على المؤمنين منهم. وهو كقوله تعالى (قالت الأعراب آمنا) وإنما قال فريق منهم”. وللتبسيط؛ فإن القرطبي يقول بأنه تعالى لم يخلق جميع الجن والإنس ليعبدوه، بل المؤمنون منهم فقط، فهناك من الناس، كالمجانين والصبيان، لا تكليف عليهم ولا يُحاسبون، مما يدل على أن الآية خاصة بالمؤمنين الذين سبق في علمه الله أنهم سيعبدونه.

ولقد طرحتُ عنوان هذا المقال في تويتر قبل عدة أشهر، فاستشهد جميع من رد علي بالآية الكريمة سابقة الذكر، فسألتهم: “ولماذا خلقنا لنعبده؟ هل هو في حاجة لعبادتنا، سبحانه وتعالى!” فأتت الإجابات بالنفي، وقال الجميع بأن الله، جل في علاه، غني عن البشر وعبادتهم التي لن تضيف إلى جلاله وملكوته شيئاً. فسألتهم مرة أخرى: “إذن لماذا نحن هُنا؟” فتوقفت الإجابات.

وفي الحقيقة فإن هذا السؤال يعد مصدر نشوء كثير من الفلسفات والأيديولوجيات والمذاهب عبر الزمن. وفي إحدى الجلسات مع باولو كويلو، تناقش معه أحد زملائي لثلاث ساعات حول نفس القضية، وتوصلا في النهاية إلى أن الإنسان يعيش ويموت دون أن يصل إلى إجابة شافية.

ولكنني أعتقد بأن هذا السؤال هو الذي يدفع الإنسان للبحث عن المجهول، وغزو الفضاء، والغوص في المحيطات، والسفر إلى أقاصي الأرض، وسبر أغوار النفس البشرية، وتحليل الجينات الإنسانية، ومحاولة تفكيك رموز الكون، بحثا عن الحقيقة، وليس رغبة في الوصول إليها.

فالبحث يؤدي إلى اتساع أفق الأمل، فيدفع الإنسان إلى الإصرار والتعلق بطوق المعرفة في بحر أسرار الحياة، أملا في الرُسُوِّ على إجابة ما. شاهدتُ أفلاما كثيرة عن أناس غرقت مراكبهم، أو سقطت طائراتهم في البحر وظلوا على قيد الحياة متعلقين بقطعة خشبية، وخلال رحلة التيه تلك يأتون بكل أنواع الحيل والأفكار المبتكرة لتمنحهم يوماً إضافياً.

وما إن يصلوا إلى بر الأمان حتى يشعروا بأنهم وُلِدوا مِن جديد. فلا شيء يعطي معنى لحياتنا مثل الاقتراب من الموت ثم العودة مرة أخرى، حينها فقط يُدرك الإنسان أنّه وُجد على هذه الأرض ليَمْنَح حياته قيمة عُليا من خلال الإيمان والعطاء والابتكار.

انظر حولك وستجد من يُحسن الرسم، ومن يحسن الكتابة، ومن يحسن التدريس، ومن يحسن البرمجة. ومن النادر أن تجد شخصاً متقناً ومحباً لشيء ما ولا يكون سعيداً. ليس لأنه يشعر بأنه مختلف ومتميز فقط، ولكن لأنه يشعر باتّزانٍ وراحة داخلية أيضاً.

قبل سنوات تطوع أحد أصدقائي مع شركة (شِل) لتنظيف سواحل الإمارات من المخلفات، وبعد مدة سافر معهم إلى أمريكا الجنوبية لتنظيف إحدى الغابات ومساعدة سكان القُرى في بناء المنازل وشق شبكات الري. عندها فقط أدرك المعنى الحقيقي للحياة، وهو أن يُتقن شيئاً يستطيع من خلاله أن يُغير حياة الآخرين.

اسأل نفسك الآن: ماذا يمكنك أن تفعل لتعطي حياتك قيمة؟ لماذا أنت هُنا؟ ولو أنك خُلِقتَ للعبادة فقط فلماذا كانت “إماطة الأذى عن الطريق” إحدى شُعَب الإيمان!

حاول أن تتذكر الآن متى كنتَ أكثر سعادة، عندما كنتَ تشتري الألعاب لطفلك أم عندما يشتري هو لك الآن هدية وقد صار رجلاً؟ عندما كنتَ طالباً على مقاعد الدراسة، أما عندما أصبحتَ تُدرّس الطلاب الآن؟ ومتى شعرتَ بنقاء وصفاء روحي أكثر، عندما فرّجتَ همّ فقيرٍ أم عندما فرّج أحدهم كُربتك؟

وجدتُ إجابتي الخاصة لمعنى الحياة في قصة رجل بني إسرائيل الذي سقى كلباً ماء فدخل الجنة. تمعنتُ في القصة كثيراً؛ فأدركتُ بأن الإنسان عندما يُعطي يرتقي، وعندما يرحم يسمو، وإذا كان هذا جزاء من رحمِ كلباً، فكيف هو حال من يرحم أخاه الإنسان؟

– البيان