علي عبيد

مخجل ومهين، لنا نحن وليس هو، موت بائع البطاطا، ذي السنوات الاثنتي عشرة، الذي خرج ذات صباح يجر عربته لمساعدة أسرته على كسب لقمة عيشها، ولم يعد. مخجل ومهين، لنا نحن وليس هو، وقوف طفل في الثانية عشرة من عمره خلف عربة بطاطا، في الوقت الذي كان يجب فيه أن يكون جالسا خلف كتابه في مدرسته.

مخجل ومهين، لنا نحن وليس هو، أن يضطر طفل إلى الادعاء بأن والده قد توفي، كي يفوز بفرصة تعليم وعدته بها إحدى الجمعيات الخيرية، بعد أن عجز النظام عن توفيرها له، فاضطر للوقوف خلف عربة بيع بطاطا، لمساعدة والده الذي يقف خلف عربة أخرى إلى جانبه. مخجل ومهين، لنا نحن وليس هو، وقوف أي طفل للعمل على قارعة الطريق، في حين يحصل أبناء الرؤساء والوزراء والمسؤولين الكبار على فرص التعليم، وأفضل الوظائف دون عناء.

مخجل ومهين، لنا نحن وله، أن يُرديَ جندي أوكِلت إليه حراسة الوطن، طفلا كان يُعِدّه الوطن ليقف ذات يوم مكانه على ثغر من ثغور الوطن.

مخجل ومهين، لنا ولهم، أن يخرج بيان من القوات المسلحة التي ينتسب إليها قاتلُ الطفلِ بائعِ البطاطا، يدعي أن هناك مبادرات من أسرة الطفل القتيل للتنازل عن الحق المدني، يقينا منها بأن القتل لم يكن متعمدا، ثم يظهر والد الطفل على الفضائيات مكذبا البيان، ومتمسكا بحقه في أن ينال قاتل ابنه الجزاء الذي يستحقه. مخجل ومهين، لنا جميعا، موت أي طفل مقتولا، في زمن لم يعد يستحق الحياة فيه غير الأطفال، لأنهم وحدهم الأمل، بعد انكسار آمال الكبار. مخجل ومهين، لنا جميعا، موت أي إنسان بريء، في زمن الثورات التي تدعي أنها قامت من أجل كرامة الإنسان، والمحافظة على حياته.

مخجل ومهين، لنا جميعا، هذا الشعور بالعجز، مثل قشة جرفها السيل إلى حيث لا يُعرَف لها مستقر ولا غاية.

مخجل ومهين، مسلسل الدم هذا الذي تتوالى حلقاته، لكن الأكثر مدعاة للشعور بالخجل والمهانة، أن يصبح الأطفال عرضة لرصاص العابثين بالأرواح، من الجنود والقناصة الذين لا يفرقون بين الصغار والكبار، وهم يسفكون الدماء الحارة بدم بارد.

في مسرحيته الشهيرة “موت بائع متجول”، يقدّم لنا الكاتب الأميركي المعروف “آرثر ميلر” نموذجا لسقوط الحلم، حين يُقْدِم بطل القصة “ويلي لومان” في نهاية المسرحية على الانتحار، بعد أن يكون قد مرّ بخيبات وانكسارات كثيرة، بدأت من إحساسه بالظلم في الشركة التي يعمل فيها ويُطرد منها، وانتهاء بفشل ولديه في الدراسة والحياة، الأمر الذي يقرر معه الانتحار، أملا في أن تساعد أموال التأمين على حياته، ولديه وزوجته للانطلاق وبدء حياة جديدة.

وهو ما اعتبره الكثير من النقاد سقوطا للحلم الأميركي، المتمثل في مجتمع مهووس بفكرة النجاح القائمة على مبدأ الطموح الشخصي. ما بين سقوط “الحلم الأميركي” وسقوط “الحلم العربي”، تبدو المسافة متقاربة إلى حد كبير، مع اختلاف المسرح الذي تجري عليه الأحداث، واختلاف الشخصيات التي تقوم بأداء الأدوار.

ففي الوقت الذي تجري فيه أحداث “موت بائع متجول” على خشبة المسرح، تجري أحداث “موت بائع بطاطا” على أرض الواقع. وبينما نجد مشهد الانتحار هناك تمثيليا بحتا، نجد مشهد القتل هنا حقيقيا، ونرى الدماء التي تسيل على الأرض حقيقية، والحزن الذي يغلف المشهد كله حقيقيا وعميقا، ومعبرا عن الحالة المتردية التي وصل إليها الحال الذي لم يعد محتملا.

وما بين سقوط “الحلم الأميركي” الذي عبر عنه “ميلر” عام 1949، متمثلا في “موت بائع متجول” في الولايات المتحدة الأميركية، وسقوط “الحلم العربي” عام 2013 متمثلا في “موت بائع بطاطا” في أحد بلدان الربيع العربي.. ما بين سقوط الحلمين فترة زمنية تتجاوز العقود الستة، لكنها لا تلغي الفكرة الأساسية من المقارنة بين السقوطين، وهي فكرة أن الشعوب تتشابه في أشياء كثيرة وتختلف في أشياء كثيرة؛ منها مساحة الأحلام التي ترسمها لنفسها، ووسيلة تحقيقها لهذه الأحلام، وطريقة سقوط هذه الأحلام والإخفاق في تحقيقها.

كان حلم البائع المتجول “لومان” بطل مسرحية “آرثر ميلر”، أن يكوّن أسرة سعيدة في مجتمع رأسمالي له قيمه الخاصة. لذلك فإن سقوط حلم “لومان” الشخصي، كان تعبيرا عن سقوط قيم مجتمع مهووس بفكرة النجاح. أما حلم “بائع البطاطا” الصغير فكان لا يعدو الحصول على فرصة للتعليم، وتغيير المهنة التي يعمل بها منذ خمس سنوات، والتي تعب منها، كما قال بخجل في المشهد القصير الذي انتشر على اليوتيوب ومواقع الانترنت بعد مقتله. لذلك فإن سقوطه مضرجا بدمائه، كان تعبيرا عن سقوط قيم مجتمع كان يحلم بثورة تعيد للأطفال براءتهم، وتحفظ لهم حقهم في التعليم والعيش الكريم، والأهم من هذا كله؛ حقهم في الحلم.

“موت بائع بطاطا”: مسرحية واقعية حية.

تاريخ عرضها الأول والأخير: الأحد 3 فبراير 2013م.

مسرحها: محيط السفارة الأميركية في إحدى دول الربيع العربي.

بطلها: الطفل الشهيد عمر صلاح عمران.

ممثلوها: مجهولون، وربما يبقون مجهولين حتى قيام الساعة.

المتفرجون عليها: سكان الكرة الأرضية، من أقصاها إلى أدناها.

نتيجتها: لم يتأثر أحد!

– البيان