ياسر حارب
وُلِدَ عام 1935 حين كانت النازية الألمانية آخذة في الصعود، ثم أتت الحرب العالمية الثانية، تلتها الحرب الكورية، ثم حرب فيتنام. يقول بأنه كان شاهداً على كثير من العنف باسم الحرية، إلا أن أغلب تلك الحروب فشلت في إيجاد عالم سعيد وصحي. بل نتج عنها كثير من الخوف، والقلق والضيق. هكذا يصف (الدلاي لاما) حال العالم الذي نشأ فيه، وخسارته لبلاده (التبت) التي تسيطر عليها الصين حتى اليوم. ثم يقول بأنه أحب الساعات والمال.
والكلاب والقطط، ولكنها عجزت كلها عن إسعاده، ولم توجد له سلاماً داخلياً، حاله في ذلك حال كثير منا؛ نحاول الانتصار لأنفسنا من مشكلات العالم، فنغرق فيها أكثر. نسعى للربح فنعيش في خسارة حتى عندما نكسب، ونبحث عن السعادة بحزن غامر! يا للغرابة، كيف نمشي في الطريق الخطأ، وبالطريقة الخاطئة، ثم نتمنى أن نصل؟
لقد حالفني الحظ في ملازمة الشيخ العلامة عبد الله بن بيّه طيلة أسبوع كامل، ولا أذكر أنني سمعته يتحدث لأكثر من ثلاث دقائق متواصلة. رأيت علماء ومسؤولين يثنون ركبهم عنده يسألونه في الفقه والدين، فيجيبهم باقتضاب ثم يعود إلى تحريك سبحته والاستغفار. سألت ابنه عن سر ذلك الصمت فقال بأنه حضر معه يوما مجلساً مليئاً بالعلماء، تحدثوا كلهم إلا هو، وبعد أن انفضّ المجلس وخرجوا، لام أبيه على صمته وهو العالِم المُحدّث الفقيه، فقال له: “يا بُني، لا تنتصر لنفسك بكثر الكلام.”
وعندما عدتُ إلى بيتي في المساء تذكرتُ بأنني كنت يوما ما كثير الكلام، أبحث عن المنصب والمال، ولا أنفك أشارك في كل حديث وأزاحِمُ الناس في كل حوار حتى يُقال “قارئ” إلا أنني رغم ذلك كنت كثير القلق، حتى قرأت الحكمة التي تقول: “الأواني الفارغة تحدث ضجة أكثر من المملوءة.” فأدركتُ أن الانتصار للنفس لا يكون بكبح جماحها فقط كما يقول الحكماء، ولكن بتشكيلها من جديد.
إن الانتصار الحقيقي للنفس يعني أن نتجاوز عندما لا نريد، ونسامح عندما لا نستطيع. أن نؤمن بالنور في حلكة الظلام، ونصدق أن الفرح يشق طريقه وسط الحزن، كما تشق نبتة خضراء طريقها في صحراء قاحلة حتى تصير يوماً واحة تغشاها القوافل والعابرون. وأعظم انتصار للنفس يكمن في إعطاء الآخرين فرصة للتفوق علينا.
يعتقد البعض أن النصر هو الشدّة والقوة، وأعتقد بأنه القدرة على التخلي عنهما. النصر هو الانتظار دون الشعور بالضجر، لأنه يعني قضاء وقتٍ أطول مع النفس؛ والصبر عليها. إن من يصمت يلامس جذور روحه، ومن يتأمل يسقيها. هل كتبتَ يوماً أهدافك ثم لم تصل إليها؟ المشكلة ليست في الأهداف، ولكنها في أنك لا تعرف من تكون، وماذا تريد، وماذا تُحب. باختصار: تكمن المشكلة عندما لا تملك قِيَماً عُليا في حياتك لتنضوي أهدافك تحتها!
لقد حلّت المادة مكان القيمة، وصارت الأشياء تقاس بمكسبها حتى فقدت فحواها. فكر في الأشياء التي تجعلك سعيداً، وستجد بأن غالبيتها متعلقة بالمال. وبما أن هذه الأشياء لا تدوم فإنك تبقى في توتّر مستمر، إما للحفاظ عليها، أو لاستبدالها.
بعض الأشياء لا تفقد قيمتها، إلا أنها رخيصة جداً، ولأنها كذلك فإننا لا نُلقي لها بالا كأنها بضائع مُزجاة تُباع في أسواق الجُمَعِ وعلى الأرصفة المهترئة. كالحُب، والتسامح، والضحك، والقراءة، والصمت.. كلها لا تقدر بثمن، ولو أننا ألصقنا عليها بطاقة أسعار فإن الحياة برمّتها ستفقد قيمتها.
يختم الدلاي لاما، الذي يبلغ من العمر سبعة وسبعين عاماً، حديثه عن حياته بقوله: “أدركتُ الآن أن الشيء الوحيد الذي حقق لي السعادة هو القيمة الكبرى التي أحملها في داخلي؛ التسامح والتجاوز عن أخطاء الآخرين. فالقيم المادية قد تجلب لك السعادة، ولكنها ستجلب القلق أيضاً.” يبدو الكلام مثالياً عندما نحاول تطبيقه، ثم يصير مؤلما عندما نفشل في تحقيقه، ويصبح عذباً ومُناسباً عندما نصل خط النهاية.
إذا كانت الحياة مركباً فعَلِّق الغَدَ شراعا، واجعل القِيَم دفّة، ولا تخش عنفوان الرياح ووحشية الأمواج، فالغد ينتصر دائماً. الانتصار الحقيقي محلّه في الداخل؛ عندما نستطيع تنظيم ضربات قلوبنا حين نغضب، وعندما نسيطر على أنفاسنا حين نخاف، وعندما نبتسم حين يأتي أوان الرحيل.
إذا عوّدت نفسك على التخلي عن الأشياء ببطء؛ فستدرك بأنك أكثر سعادة عندما تملك أشياء أقل. حينها فقط ستجد ذاتك، وعندما تجدها ستنتفي الحاجة إلى بقية الأشياء؛ لأنها متى أشرقت فإنها لا تغيب. الانتصارالحقيقي للنفس أن تكون أنتَ أنتَ، لا شيء آخر
– البيان