مريم الساعدي
نتبرم أحياناً أو أغلب الأوقات. نشتكي من ضيق المكان، وضيق النظرة، وضيق السماء، وضيق الأرض. ونكرر أن المدينة لا تحمل لنا حياة، الوجوه لا تبدو سعيدة. كل شيء يبدو باهتاً، بلا إشراق، نُهدر الأوقات، هنا وهناك، نبحث عن إحساس، عن شعور بالانتماء نحو مكان بعينه، نناور السأم، ويناورنا، نقضي عليه للحظات، ويقضي علينا لأيام وشهور.. وتمضي السنون.
ونظن أن الخطأ في المدينة. نقول لو نسافر سنبتهج. نحزم الحقائب، نتأكد مما نحتاجه، نريدها حقائب خفيفة، على الرغم من ذلك نزحمها بالكثير، فمع كل احتياج نتذكر أننا نحتاج إلى شيء آخر. سننسى غالباً فرشاة الأسنان والمعجون وشاحن الهاتف. سنسحب الحقيبة ونغادر المطار، ونمر عبر بوابات ونقاط تفتيش، ونركب طائرة تمخر بنا عباب السماء لأرض جديدة، أرض بعيدة، أرض فيها الشجر أكثر اخضراراً، والشوارع أكثر رحابة، والمعمار أكثر اكتمالاً، والوجوه أكثر انشراحاً، والقلوب أكثر انبساطاً، نبحث فيها عن إحساس مختلف يجعلنا نشعر بأننا ما زلنا على قيد حياة لا تكتمل.
في المدينة الجديدة سنتجول، تبدو الطرقات متسعة ربما، وربما أكثر ضيقاً. مزدحمة، وربما أكثر فراغاً. نحتسي فناجين قهوة على أرصفة مقاهٍ جديدة، ونتأمل الوجوه السائرة نحو أهدافها. ونبحث عن هدف.
نقول لندن كئيبة، وباريس جميلة، روما حيوية، وجنيف مشرقة، نقول ميونخ باردة، وبومباي حارة، بانكوك لزجة، ومراكش سعيدة، وموسكو حميمة، وبالي ساحرة، نحب هذه المدينة، ونكره تلك. ونعود إلى زيارة مدينة كرهناها مراراً لأننا سنحبها لاحقاً، ونعاود كرهها مرة أخرى.
سنمضي في المطارات نجرجر حقائب السفر المتخمة باحتياجاتنا، والتي لا نحتاجها حقاً، حتى ندرك أن المدينة الحقيقية هي في القلب، وأن المدن لا تكون جميلة أو قبيحة، سعيدة أو حزينة، هي تكون كيف نكون نحن. سندرك أن خرائط المدن هي خرائط قلوبنا فقط، تحلو وتقل حلاوة كلما زاد أو نقص منسوب المرارة في الحياة. الإنسان كائن شخصي بامتياز، وحين نتحدث عن الحياد والموضوعية فعلينا أن نتكلم عن الصخور والجبال والشجر والجدران والشوارع وأكواب الشاي والقهوة، ونستثنى الإنسان لأنه دائماً سيشخصن أشياءه، لينتمي.
حين هبط الأمير الصغير إلى كوكب الأرض في الرواية العظيمة الخالدة للكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت اكسوبيري، وجد ثعلباً علمه معنى أن يكون لك صديقاً. قال له «بالنسبة لك أنا ثعلب من مئة ألف ثعلب، وبالنسبة لي أنت ولد من مئة ألف ولد، حين نصير أصدقاء أصبح في نظرك فريداً في العالم، وتصبح في نظري فريداً في العالم».
ما إن يرانا أحد بعين الاهتمام والمحبة تبتدئ ملامحنا في التشكل، فيبرز الأنف وتظهر العين التي كنا نظنها حدقة فارغة، ويصير للأذنين معنى غير حامل إطار النظارات. تستعيد الحواس دورها فنرى ونرهف السمع، ونشم عبق الحياة. فتستحيل المدن لأماكن مبهجة، ولو كانت أنقاض حرب.
المدن ليست معنية بنا، نحن المعنيون بها. نحن نقرأ خرائطها بالقلب، وقلوبنا غالباً مغلفة بالمشاعر، بإنسان عرفناه هنا، وآخر تركناه هناك. فهي مدينة صديقة، وتلك مدينة غريبة، وأخرى تقول لا أعرفكم، لأننا لم نعرف فيها أحد. نحن من يُشكل العالم حولنا، والعالم حولنا لا يتشكل إلا بنا. هذه هي رحلة الحياة، والحقيبة الوحيدة التي تحتاجها لهذه الرحلة هي قلب إنسان يحبك. ستغدو كل مدن العالم حينها وطناً.
مودعاً صديقه الجديد قال الثعلب للأمير»إننا لا نرى إلاّ بالقلب، الأشياء الجوهرية لا تراها العين». والأشياء الجوهرية، يا أميري، هي عواصم الحياة.
– الاتحاد