د خالد الخاجة
إن انطلاقة أي أمة حضاريا وارتقاءها على سلم التمدن، لم يكن أبدا قائما على بنيان مادي تقني بعيدا عن قاعدة فكرية قوية، وإلا أصبحت كالطائر الذي ليس لديه غير جناح واحد فأنى له أن يحلق! لذا فالتوازن بين الانطلاقة التنموية والقاعدة الفكرية ضرورة لا بد منها، لضمان نجاعتها وتوجيه بوصلتها.
وسِيَر الأمم وصفحات التاريخ تخبرنا أن أمما نهضت وشيدت بنيانا ضخما على غير هدى من قيم معتبرة، فكانت نهضتها وبالا عليها وعلى قادتها، إما إلى عداء غيرها أو انهيار ما أسسته.. وآية ذلك تلكم الحروب التي راح ضحيتها ملايين البشر في النصف الأول من القرن الماضي.
ولأن حوادث الدهر خير معلم، حرصت الإمارات دوما في انطلاقتها نحو التنمية، على أن تضع عينا على المستقبل وأخرى على ثوابت أمة لها خصوصيتها، وقدمت نموذجا تنمويا فريدا يؤكد بالواقع العملي أن التنمية لا تعني أبدا انخلاعا عن الماضي، ولكن انتقاء ما يناسبنا ويدعم مسيرتنا.
ولأن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل بين أبناء الشعب الواحد، بل تمثل الهوية الوطنية المميزة لشعب دون آخر، كما أنها أداة إبداع وتفكير، فضلا عن كونها أداة لتشكيل الوجدان وتذوق الأدب والفن مما يربي عند الفرد الذوق السليم، كما أنها الرباط الوثيق بين الفرد وتراثه وبدونها تنقطع تلك الصلة؛ وإن أقسى ما تصاب به الشعوب هو فقدان الثقة في ما تملكه واستشعارها الهزيمة الثقافية، التي هي أوجع عشرات المرات من الهزيمة العسكرية التي قد يتم تعويضها عبر الدخول في جولة أخرى من القتال، إلا أن معارك إثبات الذات ثقافيا هي معارك ممتدة، والهزيمة فيها تؤثر على مستقبل الشعوب لعقود طويلة، حتى تسترد عافيتها بعد أن تكون خسرت من أبنائها جيلا أو أكثر.
ولأن اللغة كذلك تعد خط الدفاع الأول عن هوية الشعوب وثقافتها وخصوصيتها، وألوان وأشكال منتجاتها الفكرية، ورائحة النسيم الذي يملأ جنبات دروبها، فقد بات الذود عنها والحفاظ على مكانتها هو حفاظ على بقاء الشعب ذاته، ومن يريد أن ينهض معتمدا على ذاته لن يتحقق له ذلك بغير لغته؛ والأمثلة في ذلك أكثر من أن تحصى.
فاليابان والصين وكوريا وغيرها كثير من شعوب لم تركن إلى غير لغتها الأم، التي فكر بها أبناؤها، وأبدعوا من خلالها، وتقدموا على أساس منها، وهذا هو الطريق الصحيح للحفاظ عليها، وارتباط الأجيال بها، عندما تيقنوا أن لغتهم منتجة على أرض الواقع، ما جعل غيرهم من أبناء الشعوب الأخرى يسعون إلى تعلمها رغبة في الاستفادة من ثمراتها.
من هنا كان لا بد أن تتوازن مسارات النهضة بجوانبها الثقافية والمادية، وألا تكون منصبة على جانب واحد، وإلا ستجد شعبا يملك الكثير من أسباب المدنية إلا أن لديه خواء في البحث عن هوية.
وهذا ما أكد عليه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم من أن العربية لغة حياة نعيشها، تعبر عنا بمختلف حالاتنا، وليست ماضيا مندثرا وتاريخا لا يصلح لزماننا الحاضر، مشددا على أن المحافظة عليها هي مسؤولية وطنية ودينية وأخلاقية، وأن رؤية الإمارات 2021 تهدف إلى جعل الدولة مركزا للامتياز في اللغة العربية، وأن الإمارات أخذت على عاتقها رفع لواء المحافظة عليها ودعم كل المبادرات الهادفة إلى ذلك.
ولا شك أن دعوة فضيلة الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، لإلقاء كملة الافتتاح في منتدى دبي للإعلام، وهو الحدث الإعلامي الأهم والأكبر على مستوى المنطقة، تعكس حرص الإمارات حكومة وشعبا على الإسلام الوسطي المستنير وحضارتنا العربية الإسلامية التي تعد اللغة أداتها والناقل والحافظ لها؛ وما أنكره شيخ الأزهر على بعض المؤسسات العربية التعليمية وغير التعليمية، التي تعقد اجتماعاتها باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، ومن لا يعرف هذه اللغات من أعضاء الاجتماع يُترجَم له إلى العربية، علما بأن المجتمعين في هذه الاجتماعات هم عرب خلّص ولا يوجد بينهم أجنبي واحد، واعتبر ذلك هوانا واغترابا للعربية على أرضها وترابها وبين أبنائها، وحث رجال الإعلام وحملة الأقلام، الذين ساهموا منذ عقود في نشر وتقريب اللغة العربية الفصحى المبسطة إلى أبناء الشعوب العربية، أن يستمروا في أداء دورهم بمراعاة حرمة اللغة العربية في عقر دارها، وهم ليسوا أقل من زملائهم أبناء اللغات الأخرى في دفاعهم وحمايتهم عن لُغاتهم.
وفي لقاء جمع أعضاء هيئة التدريس في الكلية والأستاذ محمد الحمادي رئيس تحرير جريدة الاتحاد، حول شجون وهموم العمل الصحافي وسبل إعداد الكفاءات الوطنية للالتحاق به، أشار، وهو من يعمل في الميدان، إلى أن تدريس برامج الإعلام باللغة الإنجليزية حال بين الدارسين وبين الالتحاق بالعمل الصحافي، لضعف مهارات الكتابة باللغة العربية لديهم فضلا عن اللغة الإنجليزية، واستثنى من هؤلاء المهتمين أصلا بلغتهم العربية، بصرف النظر عن طبيعة دراستهم.
الشاهد أن الإمارات لم تكتف في رفع لواء حماية اللغة العربية بالعبارات الإنشائية، التي تمجد اللغة والحفاظ عليها، ولكنها تقدم ذلك عبر خطة عمل محكمة، ومبادرات كانت ولم تزل واضحة المعالم يمكن قياس نتائجها والبناء عليها، من خلال تشكيل لجنة تحديث اللغة العربية لتعزيز مكانتها عبر تطوير طرائق وأساليب تدريسها وتعليمها، وتحديد المؤسسات المعنية بتحمل مسؤوليتها الوطنية، ابتداء من الأسرة وليس انتهاء بالمؤسسات والهيئات التعليمية بمراحلها ومستوياتها وما تضعه من مناهج تعليمية، فضلا عن التركيز على البعد الأخلاقي والمسؤولية الوطنية والدينية، باعتبارها لغة القرآن التي خصنا بها الله سبحانه وتعالى.
ولأن القضية ليست قطرية، فقد وجه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد إلى إطلاع الجهات المعنية بالحفاظ على لغتنا الجميلة والتغلب على ما يواجهها من تحديات، للاستفادة من نتائج التقرير والاسترشاد بمضمونه.
إن ما تقدمه الإمارات هو دعوة لعودة الروح وشحذ الهمم واستنفار الطاقات، على أساس من العلم والتخطيط، الذي يؤكد أن اللغة العربية كانت ولم تزل قادرة على أن تكون لغة للعلم والإبداع في مختلف المجالات، لتصبح ليس فقط لغة حياة.. بل لغة للحياة.
– البيان