جمال بن حويرب المهيري

لن أتكلم اليوم عن دين “رجب طيّب أردوغان” ولا عن نجاحاته السياسية والاقتصادية، ولن أذكر أيضاً إخفاقاته في أمور شتى منذ توليه رئاسة الوزراء للجمهورية التركية في سنة 2003م، مع أنّي كلما زرت تركيا حدّثني عن هذه الأخطاء أهل الاختصاص من أصدقائي الساسة الأتراك ومن غيرهم من المراقبين، وكذلك من الأكاديميين الذين طالما حذّروا من الانفراد بالسلطة في دولةٍ تقع بين الشرق والغرب وبين المعسكر الديمقراطي والعسكري، وموجودة فوق “برميل” من البارود يكاد ينفجر في أي وقت بسبب الحروب التي تدور رحاها على أطراف بلاده.

عرفت “أردوغان” من خلال بعض زملائه مديري بلديات “إسطنبول” عام 1995م، وكان هو حينئذٍ رئيساً للبلدية العامة، وقد بُهرت بإخلاصه وعمله المتقن وانتقاله السريع بمستوى البلدية من الخسائر التي بلغت ملياري دولار إلى الأرباح، ومن العشوائية إلى حضارةٍ كبيرةٍ، وقام أيضاً بتنظيف الخليج الذهبي فجعله معلماً من معالم السياحة، واهتم بالبنية التحتية كثيراً وأقام شبكة مواصلاتٍ مميزة نقلت هذه المدينة التاريخية إلى ما ترونه اليوم، ويرجع ذلك إلى عفة يده وإخلاصه واستعانته بفريق عمل خبيرٍ ومخلصٍ، ولا يختلف على هذا الأمر اثنان من أهل الصدق.

لكن الأمور لم تدم كما يريدها “أردوغان”، فقد قال كلمةً في أحد التجمّعات الحزبية سنة 1998م، حُوسب عليها حساباً عسيراً، ورأى بسببها قاع السجون التركية، فقد فهمها الجيش الحارس الشديد للعلمانية؛ أنّها تحريض صريح على الكراهية والتعصب الديني، والحقيقة أنّ “طيّب” اقتبس كلمات من شعر أحد الشعراء الأتراك يقول فيها:

مساجدنا ثكناتنا

قبابنا خوذاتنا

مآذننا حرابنا

والمصلون جنودنا

هذا الجيش المقدّس

يحرس ديننا

لم يشفع لـ”أردوغان” كل الأعمال الجليلة التي قام بها من أجل بلده، بل زُجّ به إلى ظلمة السجن حتى ينال عقابه الأليم على ما قاله، ولكن يشاء الله ثم بدعم من القوى الغربية، أن يقوى حزبه “حزب العدالة والتنمية” الذي أسسه في 2001م على أنقاض حزب “الفضيلة” لنجم الدين أربكان، الذي يعد القائد والمعلم الروحي لأردوغان ثم انشق عنه ليدخل الانتخابات في 2003م ليفوز ويخرج “طيّب” منتصراً من سجنه ورئيسا لوزراء تركيا العريقة، رغماً عن أنف الجيش، لأنّ هناك قوى أكبر منه أرغمته ليقبل بالنتيجة القاسية وإلا ستحلّ عليه النائبة.

عاش “أردوغان” سنوات طويلة في رئاسة الوزراء، وقد حاربته كل الأحزاب لكنّه طوّعها وجعلها ترضخ له بكل ذكاء، ثم طوّع المؤسسة العسكرية حتى بلغت قوته أنْ نصّب رئيس الجمهورية من حزبه وهو وزير خارجيته السابق عبدالله غول، وهذا النجاح منقطع النظير جعله يدخل في جوٍّ نفسي خطير لا يمكن أن يبقى فيه طويلاً، وهذه سنّة الحياة.

لا أحتاج إلى أن أذكر لكم ما يحدث الآن من التظاهرات الكبيرة التي يقودها الشباب التركي ضد حزب العدالة الحاكم، لأنّ الأخبار كثيرة عنها وفي كل المحطات المرئية والمسموعة، ولكنّي سأتكلم عن نفسية القائد الذي يظنّ أن الأمور ستبقى على ما يحب ويشتهي حتى آخر وقت من عهد حكمه، من غير أن يفكر في العواقب ولا يستمع إلى قول الناصحين، بل يسرع في اتخاذ القرارات الخاطئة حتى وصفه للمتظاهرين بأنهم جبناء، هذا كله يدل على ثقافة قد توصف بأنها متغطرسة لا تليق بشخصية مثل شخصية “طيّب”، ولا يصحّ أن يقع في مثل هذا الوحل شخصٌ محنّك مثله.

وأخيراً قال لي أحد المقربين من “أردوغان” منذ سنتين: “إنه عنيد ولا يسمع الآن من أحد، أتمنى أن يغيّر من أفكاره قبل أن تظهر تظاهرات كبرى تقلعه من جذوره”، فهل تصدق تنبؤات هذا الناصح الأمين؟ الله أعلم.

– البيان