د خالد الخاجة
من طبائعنا البشرية أننا لا نرى الأشياء والوقائع ومشاهد الحياة اليومية كما هي أو كما حدثت، ولكننا نراها بما لدينا من أفكار عنها ونضفي عليها من طبائعنا الذاتية، والشاهد أنه يمكن تفسير حدث أو سلوك شخص ما أو تحليل لصورة نراها، بعدة طرق وتختلف حولها الرؤى. فالإنسان أسير لما يدور في فكره، وما انطبع في ذهنه من صور نمطية وقوالب جاهزة، تجعله يطلق أحكاما دون بذل جهد في البحث والتقصي، ويتصرف أحيانا بناء على ما يكون في ذهنه من صور، خاصة وأنه من الصعوبة بمكان أن يُكوِن الفرد خبراته في الحياة عبر التجربة الشخصية، وإلا فإنه سيحتاج إلى عقود عديدة تضاف إلى عمره.
كما أنه من الثابت في مجال علم النفس، أن من سمات التفكير الإنساني الإسقاط، وهو تفسير سلوك الغير بحسب ما يجري في نفوسنا نحن، ولكن الخوف من مواجهة أنفسنا بهذه الصفات يجعلنا نسرع بلصقها بالغير؛ فصاحب الشح في العطاء دائما ما يصف من يقوم بأعمال الخير بالتظاهر والرياء لينال الثناء والمدح من الغير، وقليل المودة للآخرين يتهم الشخص الودود بالتزلف والخضوع للغير، ومن لا تحكم سلوكياته وعلاقاته مع الغير غير المنفعة، دائما ما يرى علاقات الصداقة في من حوله غير منزهة عنها.
الشاهد أننا نرى الأشياء كما نود أن نراها لا كما هي؛ وقديما قال الإمام الشافعي: وعين الرضا عن كل عيب كليلة * ولكن عين السخط تبدي المساويا.. بما يعني أننا نحدد في حياتنا – بطبيعة الحال – ما نود أن ننظر إليه والطريقة التي نود أن نراه عليها، لأن الانتقائية صفة ملازمة للبشر، فمن غير الميسور أن يرى الفرد المكونات حوله بنفس درجة التركيز، لذا فهو يختار أشياء محددة يراها دون غيرها؛ حتى من شاهد حادثة أو واقعة وطلبت منه أن يقصها عليك، تراه لا يقص عليك ما حدث بل ما رآه هو، وبالتأكيد ليس كل ما حدث، كما أنك تكون انتقائيا في تذكر ما قصه عليك بحيث تركز على ملامح دون غيرها، وهي كذلك من طبائع البشر.
إننا نحدد اللون الذي نحب أن نرى به الأشياء من داخلنا قبل أن تكون في الواقع؛ والمثال المتعارف عليه هو الكوب الذي يرى بعضنا نصفه المملوء فيما لا يرى آخرون غير النصف الفارغ، وكل يتعامل معه حسب ما يراه؛ وهو نفس الخطأ الذي نقع فيه حينما نضيع وقتا كثيرا في التحسر والندم على ما فقدناه، وهو ما يحول بيننا وبين الاستمتاع والرضا بما هو بين أيدينا.
إن الألوان التي نحيط بها رحلتنا في الحياة وفي دنيا الناس، من داخلنا وليست من خارجنا، والمتكاسلون أصحاب الوهن والضعف والهمم المتدنية، يجدون سعادة كبيرة في التحسر وفي الشكوى وتصدير مشاعرهم للغير، وكأنهم لا يريدون بذل الجهد للنجاح.
يروى أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله ويطلب منه مالا، فقال له النبي: “أما في بيتك شيء؟ فقال الرجل: بلى، حلس (كساء) نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقدح نشرب فيه الماء. فقال النبي: ائتني بهما، فجاء بهما الرجل، فقال النبي: مَنْ يشتري هذين؟ فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم. فقال: مَنْ يزيد على درهم.
فقال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الدرهمين فأعطاهما الرجل الفقير، وقال له: اشترِ بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك، واشترِ بالآخر قدومًا فائتني به. فاشترى الرجل قدومًا وجاء به إلى الرسول، فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمسك بعود حطب فقطعه بالقدوم وقال له: اذهب فاحتطب وبع ولا أَرَينَّك خمسة عشر يومًا.
فذهب الرجل يجمع الحطب ويبيعه، ثم رجع بعد أن كسب عشرة دراهم، واشترى ثوبًا وطعامًا، فقال له الرسول: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نُكْتَةً في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مُدْقِع، أو لذي غُرْم مفظع ، أو لذي دم موجع”.
إن التفكير الإيجابي يشعر الإنسان بدوره وقدرته على أن يكون له دور نافع لنفسه وأن يكون نموذجا لغيره في المجتمع، وهو العاصم له من الشعور بالعجز والكراهية وإشاعة الحقد بين الناس، ومن شأن ذلك إشاعة حالة من السلام مع النفس، والتي تنعكس في السلام مع الغير والحياة برمتها.
كيف نغفل جمال الوردة ولا نرى فيها غير الشوك؟ وكيف لا نرى في الليل غير العتمة والظلمة دون النظر إلى جمال القمر وسحره؟ وكيف لا نستمتع بالصبح حين يتنفس بنوره ونسيمه خوفا من قدوم الليل؟ حتى عند الإصابة بالمرض، لماذا نظل نشكو من أوجاعنا دون أن نحاول علاجها؟ وكيف نأسى على نقاط ضعفنا في جانب ما دون النظر إلى نقاط القوة في جوانب أكثر؟ وقد أجمل تلك الروح الإيجابية إيليا أبو ماضي حين قال: أي هذا الشاكي وما بك داء * كن جميلا ترى الوجود جميلا.. والمثل الصيني الشهير يقول “بدلا من أن تلعن الظلام أوقد شمعة”.
إن أخطر ما يصيب الفرد ليس الوهن البدني ولكن خواء العقل والفكر، والهزيمة الحقيقية من داخل النفس وليس من خارجها، والشعور بالعجز والسلبية وعدم القدرة أشد إيلاما وأكثر تأثيرا من أشد العلل الجسدية، وإن الفقر الحقيقي هو فقر الفكر وانعدام الحيلة والعجز أمام الأزمات.
إن التفكير الإيجابي هو ما قامت عليه قصة اتحاد دولتنا ونهج قادتها الحريصين على نشر هذا الفكر، لأنه الضامن الحقيقي للتغلب على كل الصعاب والتحديات التي تواجهنا، وهو ما يجب أن نحرص على تعلمه وتدريب أولادنا عليه في البيوت والمدارس والجامعات؛ والبحث العلمي هو الرسالة التي يجب أن تتبناها وسائل الإعلام لنشرها بين الناس عبر تعزيز الثقة بالنفس والقدرة على التحدي، كما ينبغي أن يكون هدفا رئيسا ومحورا أساسا لسياساتنا التعليمية، خاصة وأن الثروة البشرية لم تعد تقيّم بأعداد أفرادها وفقط، ولكن بما يحملونه من فكر، وقدرات نوعية، وقدرة على العطاء والإضافة لرصيدها الحضاري ومسيرتها التنموية.
– البيا