علي أبو الريش
في ذلك الزمان تطوق النوارس فراخ الغد بالتلقين والتطمين والتحسين والتهذيب والتشذيب والترتيب، يغدقون عليهم بالنصيحة الصريحة والبوح السليم.. كانت للمجالس رائحة الأنفة والكبرياء والقيم الشماء وأخلاق الناس النبلاء ومشاعر الأوفياء وقلوب النجباء، كانت مجالس ذلك الزمان مجالس ومقابس وطوارس وأحلام يذر نباتها في الأفئدة ليخرج الزرع بأوراق الفحولة والرجولة والحس الوطني.
في ذلك الزمان نحنحة المجالس لها عرف وشرف وطرف من أطراف النجابة والمهابة والشهامة والكرامة وحسن السيرة والسلوك القويم.. في ذلك الزمان للمجالس الرمضانية قامة وعلامة واستقامة واستدامة من بين جدرانها يخرج الصدى معرفياً، فلسفياً، ضافياً غافياً على آرائك الأفكار الطالعة اخضراراً، الساطعة سبراً لما تخفي الصدور من حب وألفة وأنفة ولا مصادفة في العلاقة ما بين الكبير والصغير، لا كلفة ما بين الأكتاف إلا تكاليف الاحترام والانسجام والوئام والالتئام.
في ذلك الزمان خاضت المجالس جدل المعرفة بوعي السالفين منقولاً للخلف، كانت رواقاً يخصب الفكرة ويخضب العبرة ويهدي للصغار ما باحت به الضمائر والسرائر والمخابر وما فاضت به أنهار العمر من عذوبة العبارة.
في ذلك الزمان يأتي رمضان محملاً ببخور اللقاء الحميم والتساقي من مآقي الأزمنة، وبحكاية مشحونة بأحداث يسردها من تعلم كيف يسهم في صياغة الجملة الاجتماعية بحرفية الخبرة الطويلة، في ذلك الزمان، لمجالس رمضان عنفوان المكانة والرزانة والرصانة والأمانة واستتباب النفوس واستيعاب القلوب لمن تفرعت أفئدتهم أغصاناً خضراء مشرعة على الحياة بلهفة وخفة.
في ذلك الزمان مجالس رمضان كان للحلم جناح الفرح وكان للأهل حدقة الانطلاق نحو غايات الحب ورايات العلائق الوطيدة ما بين الجار والجار وما بين الباب والباب وما بين الجدار والجدار وما بين الدار والدار والمنازل مناهل ومفاصل لجسد واحد اسمه الوطن.
في ذلك الزمان تطور النسل عضوياً وموضوعياً لا يخالجه جنوح ولا كبوح، كان الظرف ينهل من نهر الأشواق والعشاق أناس بنوا قصيدة الوطن من مفردات الدفء والانتماء والانضواء تحت سقف لا يخر ولا يفر ولا يجر عواهن ولا شواحن.
في ذلك الزمان في رمضان أسست المجالس أشجار الحب فكانت للكبير مهابة وللصغير استجابة، في ذلك الزمان المجالس مولات وأندية ومقاهٍ، ولكن بطعم القيم التي لا يشرخها إعوجاج ولا يحنيها ارتجاج ولا يخدشها عجاج وفجاج.. في ذلك الزمان المجالس الرمضانية فسحة للأمل وفرحة للمقل وفسيح الكلام فيها لخير الأنام.