مريم الساعدي
أجلس على هامش الوقت، أنتظر محركاً داخلياً يدفعني لأتحرك وأقوم بأي فعل. أمد يدي لكتاب، وأتركه، ثم لآخر، وأتركه. أغالب السأم فيغلبني. أقرر أن المزاج اليوم ليس للقراءة، ربما بعض الاسترخاء أمام شاشة تلفاز، يمضي الوقت، والأيام التي ليست للقراءة تزداد، حتى تمر كل الأيام دون قراءة. هل تعرف كيف تشعر حين لا تقرأ لمدة طويلة؟ تشعر أنك إنسان لا ترى أمامك. فلا الطريق واضح، ولا أنت كشخص لك ملامح مميزة. تبدو مثل أي أحد، أي لا أحد.
أنتزعني من ثقل الوقت، ووطأة الإحساس بالترهل. أمسك كتاباً وأناور النفس حتى أقرأ صفحاته الأولى، ما أن تمضي تلك الصفحات حتى تكر الصفحات التالية كرّاً، تصير كأنك خُلقت أساساً لتقرأ. فتقرأ كما لم تقرأ من قبل، تقرأ بجوارحك، ثم تتخلق من الداخل، يعود لروحك نبض الحياة، وما إن تنتهي من قراءة كتاب كامل في جلسة متواصلة، تكون قد خُلقت من جديد. كائن مختلف، شفاف، ومرئي، ومبهر، وقادر على فعل الخير، ورفع أذى عن طريق، ومد يد لصديق، ما إن تقرأ كتاباً حتى تكون قد اختلفت. قد صرت إنساناً يرى ويسمع ويتكلم وقادرعلى فعل القدرة بحد ذاته، لم تعد تلك الجثة المرمية على كنبة أمام شاشة تلفاز تمسك بجهاز تحكم عن بعد تقلب بين القنوات من مسلسل تافه لآخر أكثر تفاهة، لم تعد تلك الدمية القماشية التي تسير في هذه الحياة دون روح إنما فقط كيفما اتفق وأينما أخذتها الريح، حين تنتهي من قراءة كتاب كامل في جلسة واحدة تتحول لكائن أجمل، أكثر قدرة على التسامح والعطاء والتآخي حتى مع من عاداك. القراءة فعل إنساني أشبه بالصلاة، بالخشوع في محراب الوجود، بالتأمل في أصل الكون وجوهر الكينونة، القراءة تجعل منك إنساناً يضحك، ويفرح، ويجيد الصلاة، ويعرف كيف يحب وأبداً لا يكره. هي ليست فعل ترف، ليست تسلية وقت فراغ، ليست لازدياد ثقافة وتكديس معلومات قد تحتاجها لتستعرض ثقافتك في جلسة ما، هي أنت. لن تعرف ذلك الا حين تأخذ روحك المنهزمة، المنسكبة إلى أسفل، المتآكلة بفعل الملل، المتلاشية في أرجاء الحياة الاستهلاكية اليومية، تأخذها بيدك، تلملمها، وتجرها أمامك إن هي أبت وتمنّعت، وتجلسها معك أمام دفتي كتاب، وتقول لها بكل قلبك «يا روحي اقرأي أرجوك»، فتقرأ بروحك، كلمات خطتها روح إنسان آخر، وفي انتقال الكلمات من روح لروح سحر خاص. لا يمكن أن يفسره علم، لكنه يقلب موازينك اليومية الاعتيادية، ليحولك من شخصِ عادي، لشخص ذي قيمه خاصة، وبريق، وإشعاع، وقوة جاذبة. وهكذا شخص يمكن أن يكون ما يريده.
حين تنتهي من قراءة كتاب في جلسة واحدة، لا تتوقف عن هذا الأمر، اجعله عادة. لا تقل: «قرأت اليوم سأستريح غداً»، لو استرحت يوماً من فعل القراءة ستسحبك أمواج خفية قوية سلبية إلى مستنقعات اليومي والمستهلك والمكرر، فتجد نفسك قد تلاشت من جديد وروحك تشتتت، وصرت عن جوهرك الأصلي أبعد. وما أشقى الحياة بعيداً عن الجوهر.
اقرأ، لن تخسر إلا بؤسك وفشلك وسأمك وكل هزائمك. وستربح نفسك والحياة. إنسان يقرأ، هو إنسان يعرف كيف يعيش. هو إنسان يعرف. ويالَ بهجة المعرفة.
خذ الكتاب بقوة، خذه كدواء لعلل العصر، كشفاء من خيبات الحياة. خذه حتى يأخذك إلى أقاصي معنى أن تكون إنساناً حرّاً وعلى قيد الحياة.
– الاتحاد