يصادف اليوم التاسع عشر من شهر رمضان المبارك 1434 هجرية الذكرى التاسعة لرحيل مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة وباني نهضتها وعزتها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، الذي ستظل روحه حية وخالدة في ذاكرة ووجدان الوطن والمواطنين وقلوب ونفوس الأمة العربية والإسلامية بعد حياة مشهودة حافلة بالبذل والعطاء نذر خلالها نفسه وكرس كل جهده وعمل بتفانٍ وإخلاص لخدمة وطنه وشعبه وأمته العربية والإسلامية والإنسانية جمعاء ونقش سيرته في التاريخ كنموذج للقيادة الملهمة الحكيمة التي تجمعت وتوحدت قلوب البشر جميعاً حولها وأجمعت على مبادلته الحب والوفاء والولاء المطلق.
وقد حفل سجل المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بصفحات ثرية ناصعة من المنجزات الوطنية الباهرة التي سطرها التاريخ بأحرف من نور على مدى نحو 66 عاماً متواصلة من العطاء في العمل الوطني والقومي، وذلك منذ توليه مهام ممثل الحاكم في مدينة العين بالمنطقة الشرقية في عام 1946 إلى توليه مقاليد الحكم في إمارة أبوظبي في السادس من أغسطس 1966 وحتى انتخابه رئيساً للبلاد بعد إعلان اتحاد دولة الإمارات في الثاني من ديسمبر 1971.
لقد وهب زايد نفسه لبناء وطنه وخدمة مواطنيه وتحقيق طموحاتهم وتطلعاتهم في الحياة الكريمة الرغدة، وقاد ملحمة البناء من مرحلة الصفر، منطلقاً من رؤية ثاقبة بتسخير عوائد الثروات الطبيعية لبناء الإنسان وإقامة المدارس ونشر التعليم، وتوفير أرقى الخدمات الصحية وأحدث المستشفيات والعيادات العلاجية في كل أرجاء الوطن، وإنجاز المئات من مشاريع البنية الأساسية العصرية والمستوطنات البشرية التي شكلت منظومة من المدن العصرية الحديثة التي حققت الاستقرار للمواطنين.. لقد كان بحق رجل التنمية ومن الزعماء القلائل الذين تفانوا وكرسوا حياتهم وأعطوا بكل سخاء من أجل عزة وطنهم وإسعاد شعبهم.
ولم يغب زايد لحظة من الزمن عن ذاكرة الوطن ووجدان الأمة قيادة وشعباً، فالنهج الذي أرساه في مجالات العمل كافة ظل نبراساً تقتدي به القيادة وهادياً للأمة في السير على طريقه والالتزام به.
لذلك ظلت ذكرى روحه الطاهرة حاضرة في كل إنجاز تحققه دولة الإمارات على الصعيدين الوطني والعالمي لما له من فضل وبصمة في وضع اللبنات القوية والقواعد الصلبة في مسيرة الإنجازات الوطنية الشامخة.
ففي الاحتفال بالإنجاز الذي حققته دولة الإمارات بتبوؤها المركز الأول في الكفاءة الحكومية مما وضعها ضمن العشرة الأوائل عالمياً في التنافسية العالمية، وفقاً للتقرير السنوي للمعهد الدولي للتنمية الإدارية بسويسرا لعام 2013، أكد صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله.. “إننا في هذا اليوم نذكر بالخير ونتذكر بالعرفان الوالد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وإخوانه الآباء المؤسسين، ونشعر جميعاً بأن ما غرس آباؤنا ورعاه بالعناية الأبناء والأحفاد أثمر إنجازات مشهودة فدولتنا الأولى عالمياً في الكفاءة الحكومية والأولى عالمياً في الترابط المجتمعي والأولى عالمياً في القيم والسلوكيات والخامسة عالمياً في التوظيف والسادسة في ممارسات الأعمال، إلى جانب تقدمها في 19 مؤشراً مختلفاً لتصنف ضمن العشرة الأوائل عالمياً في التنافسية العالمية”.
كما أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، مستذكراً بهذه المناسبة ذكرى الأوائل المؤسسين في كلمة له في مجلس الوزراء في 3 يونيو 2013 قائلاً .. “إن شعب الإمارات يستحق أن يفرح.. ونحن هنا كي نحقق له إنجازات تجعله يفرح ويفتخر ويعتز بدولته”.
وقال سموه “إن هذا الإنجاز أعاد له ذكرى زايد وراشد يجلسون في الصحراء يناقشون قيام الاتحاد ويتعاهدون على وضع الأساس ليرتفع الجدار، وقامت الدولة وسط الكثير من التشكيك والكثير من التحديات التي واجهها الآباء المؤسسون وارتفع البنيان ليصبح بين الأوائل عالمياً”.
وأكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم أن صاحب السمو رئيس الدولة، حفظه الله، يمضي وفق نهجهم وطريقتهم ويهتم بكل مواطن ويعمر كل بقعة من أرجاء الوطن.. وقال سموه “خليفة بن زايد هو قائد المسيرة يوحد الجهود ويجمع الطاقات ويدعم المبادرات ويبني الإمارات”، مضيفاً “نحن وضعنا ثقتنا في أبناء الإمارات، واليوم نقطف ثمرة هذه الثقة تفوقاً في الكثير من المجالات”.
وأشار سموه إلى أن هناك طاقات جبارة وكثيرة عند الموظفين لا بد أن نستخرجها عن طريق عملية التطوير والتغيير المستمر، مؤكداً سموه “إن شعب الإمارات لا يرضى إلا بالمركز الأول، وزايد وراشد أورثونا حب المركز الأول، وأنه كلما وصلنا لقمة تطلعنا للقمة التي تليها”.
عندما تبوأت دولة الإمارات العربية المتحدة المركز الأول عربياً والمرتبة الـ 17 على مستوى شعوب العالم لمؤشرات السعادة والرضا بين الشعوب في المسح الأول الذي أجرته الأمم المتحدة وأعلنت عن نتائجه في شهر أبريل من عام 2012، كانت ذكرى زايد حاضرة حين أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي ذلك بقوله: “تحقيق سعادة المواطنين كان نهج الآباء المؤسسين لهذه الدولة، وهو رؤية للحكومة بجميع قطاعاتها ومؤسساتها ومستوياتها ومنهج عمل يحكم جميع سياساتنا وقراراتنا”.
واعتمد مجلس الوزراء في الاجتماع التاريخي الذي عقده بدار الاتحاد في دبي في 27 نوفمبر 2012 في ذكرى اليوم الوطني الحادي والأربعين حزمة من المبادرات الوطنية إحياءً لذكرى زايد والآباء المؤسسين وممن بينها مبادرة تسمية يوم التاسع عشر من رمضان من كل عام والموافق لذكرى رحيل مؤسس الاتحاد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله”يوماً للعمل الإنساني الإماراتي”، وذلك إحياءً لذكراه وعرفاناً بدوره في تأسيس مسيرة العطاء الإنساني في دولة الإمارات.
وأضاف سموه “إن أهم ما يميز الآباء المؤسسين وأهم ما تعلمناه منهم هو أن المواطن هو الأولوية، وبناء الإنسان قبل بناء العمران، ونهج أخي صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، أن المواطن يأتي أولاً وثانياً وثالثاً”.
وأشار سموه إلى أن “روح الاتحاد هي العمل كفريق واحد، وفق رؤية موحدة وأهداف محددة، والإنجاز سيتحدث عن صاحبه.. وأحب أن أذكركم بمقولة شهيرة لوالدنا الشيخ زايد، رحمه الله، بأن الإنسان يفنى والمال يفنى ويبقى الوطن، وستبقى الأعمال التي قدمناها من أجل الوطن”.
وأقر مجلس الوزراء مبادرة بتسمية يوم التاسع عشر من رمضان من كل عام والموافق لذكرى رحيل مؤسس الاتحاد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “رحمه الله” بــ”يوم زايد للعمل الإنساني”، وذلك إحياء لذكرى الشيخ زايد “رحمه الله” وعرفاناً بدوره في تأسيس مسيرة العطاء الإنساني في دولة الإمارات.
كما استذكر أصحاب الفضيلة العلماء ضيوف صاحب السمو رئيس الدولة الذين يحيون ليالي شهر رمضان المبارك في مساجد الدولة في هذا اليوم ذكرى زايد وسيرته في خطبهم وأحاديثهم لجموع المصلين، وأشادوا بمآثره التي خلدها التاريخ له وإنجازاته الكبيرة داخل الدولة وخارجها وحكمته ورحمته وإنسانيته التي امتد عطاؤها إلى مختلف بلدان العالم الإسلامي وغير الإسلامي، ما جعله في أعين الأجيال قدوة القادة الحكماء من أهل الخير والعطاء.
وأجمع العالم على أن زايد كان زعيماً رائداً ورجل دولة قوياً يتمتع بالحكمة وبعد النظر أسهم في دعم قضايا أمته العربية والإسلامية من أجل تحقيق وحدة الصف والتضامن بين شعوبها والدفاع عن حقوقها، كما دعم القضايا العالمية العادلة بمواقفه الصريحة والشجاعة ومبادراته العديدة على صعيد العمل القومي وفي ساحات العمل الإنساني لخدمة البشرية جمعاء.
كما ثمن العالم، بتقدير كبير، الجهود المتصلة لزايد في الدعوة إلى نشر ثقافة التسامح والوسطية والاعتدال في الإسلام وإلى الحوار والتقارب بين الثقافات والحضارات والأديان من أجل بناء مستقبل آمن ومزدهر للإنسانية.
وكان العالم قد صدم وفجع ووقع عليه نبأ رحيل زايد كالصاعقة لما يكنه له من احترام كأحد الزعماء البارزين في محافله، ولما تحلى به من حكمة وبعد نظر ورؤية ثاقبة سديدة، ولعطاءاته السخية في ساحات المساعدات التنموية والعمل الإنساني والخيري التي انعكست نتائجها الإيجابية على جهود التنمية والسلام والاستقرار في العالم.
وأقامت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في مبادرة غير مسبوقة في 4 نوفمبر 2011، حفل تأبين تاريخياً تحدث فيه رئيس الجمعية وممثلو مجموعات دول المناطق الجغرافية العالمية الخمس في المنظمة الدولية من قارات آسيا وأفريقيا ودول أوروبا الشرقية ودول أميركا اللاتينية والكاريبي ودول أوروبا الغربية، بالإضافة إلى ممثل الولايات المتحدة الأميركية الدولة المضيفة.
ووصف الأمين العام للأمم المتحدة وقتها معالي كوفي عنان في بيان رسمي المغفور له الشيخ زايد بأنه كان أحد الزعماء البارزين في العالم الذي كرس حياته وجهوده الدؤوبة منذ توليه لمقاليد الحكم في دولة الإمارات من أجل بناء الدولة والأمة.
ووصف الأمين العام لجامعة الدول العربية حينها معالي عمرو موسى رحيل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، بأنه خسارة فادحة للعرب.. وقال، إن الأمة العربية فقدت فارساً من فرسانها النبلاء ورجلاً من أكابر رجالتها شكلت مسيرة حياته نموذجاً فريداً للعطاء بلا توقف وللقيادة الواعية الرصينة والحكيمة.
وأكد البروفيسور الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو أمين عام منظمة التعاون الإسلامي أن وفاة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “رحمه الله” هي خسارة فادحة أصابت ليس فقط دولة الإمارات العربية المتحدة، بل الأمة العربية والإسلامية والعالم.
وقال إن الفقيد تميز بشخصية فذة كان لها تأثيرها الكبير في مجريات الأحداث السياسية بمنطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، وكان له دور ريادي في حركة السلام العالمية.
وقد ولد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في نحو عام 1918 في قصر الحصن بوسط مدينة أبوظبي، وهو رابع أربعة أبناء رزق بهم الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان الذي حكم إمارة أبوظبي بين أعوام 1922 و1926 وكان ترتيبه الحادي عشر في سلسلة حكام آل نهيان، وقد عرف عنه شجاعته وحكمته وقدراته على بسط الأمن والسلام والنظام ونظمه للشعر والنشيد واهتمامه بالزراعة والمياه والري، حيث بنى فلج “المويجعي”، مما أدى إلى ازدهار قرية “المويجعي” في مطلع الستينيات.
وقد تفتحت عينا زايد وسط البيئة القاسية والحياة الصعبة التي عاشها سكان إمارة أبوظبي في قلب الصحراء وعلى ضفاف السواحل في تلك المرحلة من تاريخها، حيث بدأ في الاطلاع على أصول الدين وحفظ القرآن الكريم ونسج من معانيه نمط سلوكه ونهج حياته ورؤيته للمستقبل.
ثم بدأت المرحلة الثانية من حياته عندما انتقل من أبوظبي إلى العين، حيث أظهر شغفه المتزايد بالمكونات التقليدية التي يتصف بها البدوي الأصيل كالصيد بالصقور وركوب الخيل والهجن وإتقان الرماية، وقد أمضى في مدينة العين وضواحيها السنوات الأولى من فجر شبابه وترعرع بين تلالها وجبالها وصحرائها، واستمد الكثير من صفائها ورحابتها، واشتهر بشجاعته وإقدامه وهو لا يزال صبياً، وشكلت مكونات تلك الفترة بكل تجربتها وأبعادها خصائص زعامته الفذة وفلسفته في الحياة.
وأتقن زايد عندما أصبح شاباً فنون القتال والصول والجول والإقدام، وبدأت ثقافته تكتسب بعداً جديداً، فولع بالأدب والشعر والتاريخ، وأبدى اهتماماً كبيراً بمعرفة وقائع تاريخ العرب وأمجادهم، وكان من أمتع أوقاته الجلوس إلى مجالس كبار السن ليستمع منهم عما يعرفونه من سير الآباء والأجداد وبطولاتهم، حيث بدأت الشخصية القيادية للشيخ زايد تتبلور وتظهر بجلاء خلال هذه الحقبة من بداية الأربعينيات.
وبعد أن عين حاكماً للمنطقة الشرقية من إمارة أبوظبي في عام 1946، أظهر زايد قدرات كبيرة في إدارة شؤون العين والمناطق التابعة لها، وكرس كل طاقاته وجهوده لخدمة المواطنين وتحسين أحوالهم المعيشية، وتقدم صفوفهم في العمل رغم شح الإمكانات التي كانت متاحة.. فقد لجأ زايد إلى تنمية الزراعة وحفر الأفلاج، وكان يشارك الرجال النزول إلى جوف الأرض ويرفع معهم التراب، حيث شهدت تلك الفترة عملية إصلاح زراعي محدودة أسهمت في تطوير المنطقة وازدهارها.
واستحدث “رحمه الله” أول نظام للري ألغى به تجارة الماء التي كانت سائدة في المنطقة الشرقية، حيث أكد “أن مياه الأفلاج الآتية من جوف الأرض يجب أن تكون من حق كل الناس الذين يعيشون فوق هذه الأرض”.
وافتتح أول مدرسة في العين في عام 1959، وهي المدرسة “النهيانية”، ثم أنشأ مستشفى العين وسوقاً تجارية وشبكة محدودة من الطرق نظراً لشح الإمكانات المادية وقتها، واكتسب منذ ذلك الوقت حب مواطنيه وثقتهم فيه.
ووصف العقيد بوستيد الممثل السياسي البريطاني صورة الحياة الاجتماعية التي كان يعيش فيها المواطنون في تلك الحقبة والتفافهم حول زايد وولائهم له في كتابه “ريح الصباح” بقوله “لقد دهشت كثيراً من الجموع التي كانت تحتشد دوماً حوله في واحة البريمي وتحيطه باحترام واهتمام.. كان لطيف الكلام دائماً مع الجميع وكان سخياً جداً بماله.. ودهشت على الفور من كل ما أنجزه في بلدته العين وفي المنطقة كلها لمنفعة الشعب، فقد شق الترع لزيادة المياه لري البساتين، وحفر الآبار وعمر المباني الإسمنتية في الأفلاج لكي يستحم فيها الناس”.
كما روى النقيب البريطاني أنطوني شيرد في كتابه “مغامرة في الجزيرة العربية” انطباعاته عن زايد في تلك الفترة بقوله “كان رجلاً يحظى بإعجاب وولاء البدو الذين يعيشون في الصحراء المحيطة وواحة البريمي، وكان بلا شك أقوى شخصية في الإمارات المتصالحة.. لقد كان واحداً من العظماء القلة الذين التقيتهم، وإذا لم نكن نتفق دوماً فالسبب هو جهلي”.
وشكلت أول رحلة قام بها زايد خارج البلاد في عام 1953 إلى بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية التي أعقبها بزيارات إلى عدد من الدول العربية والإسلامية رؤية واضحة زادت من قناعاته بمدى حاجة البلاد إلى التنمية والتطور واللحاق بركب الحضارة والتقدم.
وبرزت بعد هذه الجولات شخصية زايد القيادية وقدراته السياسية ليكون رجل البلاد القوي المنتظر في إمارة أبوظبي.
وبالفعل سطعت شمس السادس من أغسطس من عام 1966 لتضيء بإشراقتها المستقبل الباهر الذي شهدته إمارة أبوظبي بإعلان القرار التاريخي بمبايعة أسرة آل نهيان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان حاكماً لإمارة أبوظبي.
وقد قبل الشيخ زايد تحمل المسؤولية الجسيمة تجاوباً مع إجماع أسرة آل نهيان ونبض الشعب، وبذلك بدأت مرحلة تحول تاريخي في البلاد.
وبدأت مرحلة سنوات خالدة حافلة بالعمل الدؤوب والإنجازات المتلاحقة بأن سخر زايد عائدات الثروة النفطية لانتشال إمارة أبوظبي من حالة التردي الاقتصادي والاجتماعي التي كانت عليها،
وانطلقت عمليات التطوير والبناء بإرساء قواعد الإدارة الحكومية السليمة، وبناء المؤسسات التنظيمية والمالية والإدارية والمرافق والدوائر الحكومية التي تتولى الإشراف على تنفيذ مشاريع التنمية وتدفقت عائدات الثروات البترولية بسخاء للإنفاق في إقامة مشاريع التطوير والخدمات والبنية الأساسية، وبدأ العمل في تنفيذ برامج طموحة سريعة وأخرى طويلة الأجل للتنمية الشاملة التي استهدفت شتى نواحي الحياة بالتبديل والتحديث للحاق بركب الحضارة والتقدم.
وشملت مخططات التطوير والتحديث لإمارة أبوظبي إقامة العديد من المدن العصرية الحديثة، وتجميل المدينة بإنجاز معجزة التشجير والمسطحات الخضراء مما أحال الصحراء القاحلة التي كانت تحيط بالجزيرة إلى حدائق غناء تحتضن المئات من الغابات ومختلف الأنواع من والنباتات والألوان من الزهور.
وبادر المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، بعد نحو عامين من توليه مقاليد الحكم في إمارة أبوظبي التي كانت قد قطعت شوطاً كبيراً على طريق النهضة والتقدم، إلى دعوة إخوانه حكام الإمارات إلى الاتحاد في دولة واحدة قوية، انطلاقاً من توجهه الوحدوي المتأصل في فكره وفلسفته.
ولاقت المبادرة الخيرة أصداءً واسعة واستجابة وقبولاً سريعين من أخيه المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي وإخوانهما الحكام، وتواصلت بعدها سلسلة من المشاورات واللقاءات بين حكام الإمارات أثمرت في الثاني من ديسمبر 1971 عن عقد أصحاب السمو حكام الإمارات الست جلسة تاريخية بقصر الضيافة بالجميرة بدبي برئاسة زايد أقروا فيها الدستور المؤقت للدولة الاتحادية، وتم انتخاب الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيساً لدولة الإمارات العربية المتحدة، والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي نائباً للرئيس، وتعيين المغفور له الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم ولي عهد دبي رئيساً لأول وزارة اتحادية في البلاد.
وهكذا شهد التاريخ في ذلك اليوم بعزيمة زايد وراشد وإخوانهما الحكام ميلاد دولة حديثة أصبحت يوم إعلانها الدولة الثامنة عشرة في جامعة الدول العربية والعضو الثاني والثلاثين بعد المائة في الأمم المتحدة.
وتمكن زايد من قيادة مسيرة الاتحاد بحكمة وصبر رغم العديد من المشكلات والصعاب التي اعترضت المسيرة.
وتحولت دولة الإمارات العربية المتحدة خلال سنوات قلائل من بناء اتحادها إلى دولة عصرية مزدهرة ينعم مواطنوها بالرفاهية والرخاء؛ بفضل القيادة الحكيمة والعطاء السخي والجهود المخلصة لزايد.
واتجهت الرؤية الثاقبة للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بعد بناء اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة إلى دول الخليج العربية، انطلاقاً من إيمانه العميق بحتمية وحدة الكلمة بين الأشقاء في دول الخليج، وأهمية التعاون والتآزر، وقناعته الراسخة بان أبناء الخليج ينتمون إلى أسرة واحدة تربطهم أواصر العقيدة والتاريخ المشترك وصلة الرحم والآمال والطموحات المشتركة.
وهكذا انطلقت أول دعوة لزايد لبناء منظومة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وجهوده الخيرة لعقد لقاء قمة بين قادته لتحقيق هذا الهدف النبيل.
وهكذا انتظم عقد الدورة التأسيسية الأولى للمجلس الأعلى لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية يومي 25 و26 مايو 1981 في أبوظبي بحضور جميع قادة دول الخليج العربية، وهي الدورة التي أجمعت آراؤهم فيها على إنشاء مجلس التعاون، وقاموا بالتوقيع على النظام الأساسي الذي يهدف إلى تطوير التعاون بين الدول الأعضاء.
وآمن الشيخ زايد بأن الإنسان هو أساس الحضارة ومحور كل تقدم، مؤكداً أن التقدم والنهضة لا تقاس ببنايات من الإسمنت والحديد وإنما ببناء الإنسان وكل ما يسعد المواطن ويوفر له الحياة الكريمة.
وكان المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “طيب الله ثراه” يؤمن بأن الحضارات لا تبنى إلا بالعلم، وأن الأمم تنهض وتتقدم بأبنائها المتعلمين، لذلك أولى أهمية قصوى لنشر العلم والتعليم والثقافة.
وفي إطار متصل، حرص زايد على نشر الثقافة والكتاب وتحفيز أبنائه المواطنين على الاطلاع والقراءة، وحرص على دعم وتشجيع معارض الكتاب حتى انتظم عقدها دورياً في جميع إمارات الدولة.
وكان صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، تخليداً لإرث زايد في إعلاء قيمة الكتاب وبناء الإنسان ورفع شأن الثقافة وتعزيز حوار الحضارات قد أطلق في أكتوبر 2006 جائزة الشيخ زايد للكتاب وقيمتها 7 ملايين درهم وتهدف إلى تشجيع المبدعين والمفكرين في مجالات المعرفة والفنون والثقافة العربية والإنسانية.
كما سيتم إحياءً وتخليداً لذكرى زايد افتتاح “متحف الشيخ زايد الوطني” في عام 2016 بالمنطقة الثقافية في منارة السعديات.. ويضم المتحف، الذي تبلغ مساحته 120 ألف قدم مربع، 5 صالات للعرض كل منها مخصصة لعرض نبذة من تراث وإنجازات الشيخ زايد.
وتفرد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، بجانب ما يتفرد به من خصائص الزعامة الفذة والقيادة الرشيدة بنهجين متميزين اتسمت بهما قيادته الحكيمة للمسيرة الاتحادية، وهما أسلوب الأبواب المفتوحة في الممارسة الديمقراطية وتطبيق مبادئ الشورى بين المواطنين وأسلوب القدوة في القيادة الذي يقوم على استنهاض الهمم واستنفار المشاعر الوطنية للرعية للمشاركة الفاعلة في مسؤوليات العمل الوطني، فالقيادة ومسؤوليات الحكم في فكر زايد أمانة عظيمة وبذل مستمر وعطاء سخي في خدمة الرعية.
وقد أسهم نهج الشورى، الذي اتبعه زايد والذي يتمثل في حرصه على اللقاءات المباشرة مع المواطنين في مواقع عملهم وبواديهم ومدنهم من خلال جولاته الميدانية المنتظمة لأرجاء الوطن، في ترسيخ ركائز الاتحاد وتدعيم بنيانه والتواصل مع المواطنين من خلال سياسة الأبواب المفتوحة بينه وبينهم.
وحرص زايد، خلال هذه الجولات الميدانية لأرجاء الوطن كافة، على الالتقاء بالمواطنين على الطبيعة، وتفقد احتياجاتهم، والاطمئنان على أحوالهم، ومتابعة سير العمل في مشاريع التنمية الزراعية والعمرانية والخدمية، كما حرص في هذه الجولات على الوقوف على الإنجازات التي تحققت لخدمة الشعب، والاستماع إلى مطالب المواطنين واحتياجاتهم من مشاريع الخدمات بمناطقهم.
وقد تكرس النهج الذي اختطه زايد في ممارسة الشورى في الحكم بإعلان صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، برنامج التمكين السياسي في عام 2005 لتفعيل دور المجلس الوطني الاتحادي، ودعم وحفز مشاركة المواطنين في الحياة السياسية، وذلك بإنجاز المرحلتين الأولى والثانية من هذا البرنامج بمشاركة المواطنين في انتخاب نصف أعضاء المجلس الوطني الاتحادي، وتمكين المرأة، وإعلان سموه في كلمته في اليوم الوطني الأربعين في الأول من ديسمبر 2011 أن تمكين المواطن هو مشروع العشرية الاتحادية الخامسة.
وانطلق في عام 1999 برنامج الشيخ زايد للإسكان الذي يقضي بتخصيص 640 مليون درهم سنوياً “تتجاوز الآن 4ر1 مليار درهم” لبناء مساكن للمواطنين في جميع أنحاء الدولة؛ بهدف توفير الحياة الكريمة لهم وتحسين مستوى معيشتهم وتحقيق الاستقرار الاجتماعي لهم. وقد نجح البرنامج في تغطية حاجات عشرات الآلاف من الأسر المواطنة.
وانطلق اهتمام الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بالبيئة وضرورة الحفاظ عليها وتنميتها من نظرة استهدفت تحقيق التوازن بين التنمية والبيئة والحفاظ على حق الأجيال المتعاقبة في التمتع بالحياة في بيئة نظيفة وصحية وآمنة.
وأكد السكرتير التنفيذي لأمانة اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر حينها أهاما أرب ديالو، أن اختيار دولة الإمارات لعقد هذا المؤتمر على أرضها جاء تقديراً للإنجازات التي حققتها في مجال مكافحة التصحر.. وقال، إن الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ظل لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن داعماً لمفهوم التنمية المستدامة، وإن إحدى أهم إنجازات زايد غرس أكثر من 100 مليون شجرة و48 مليون نخلة في أرض الإمارات لوقف زحف الرمال على الأراضي الزراعية.
كما أكد صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله: “ان فقيدنا الكبير قد أرسى قواعد متينة للتوافق والانسجام بين التنمية المستدامة والاهتمام بالبيئة وحمايتها وتنميتها وحقق معجزة بيئية غير مسبوقة في العالم”.
وسخر زايد كل إمكانات الدولة، وكرس كل جهوده الخيرة من أجل تحقيق الوفاق بين الأشقاء وحل الخلافات العربية بالتفاهم والتسامح حتى أصبحت جهود دولة الإمارات لتحقيق التضامن العربية سمة بارزة من سمات سياستها الخارجية، وأصبح زايد بحق رائداً قومياً في الدعوة والعمل لجمع الشمل وتوحيد الصف.
وتبوأت القضية الفلسطينية وعروبة القدس الأولوية المطلقة في فكر المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وهمومه القومية.
وقدم طوال حياته الحافلة بالعطاء دعماً بلا حدود لنضال الشعب الفلسطيني لاستعادة حقوقه المغتصبة، وتبنى العشرات من المشاريع الحيوية لدعم صمود الشعب الفلسطيني والحفاظ على الهوية العربية الإسلامية للمناطق الفلسطينية التي تحاول قوات الاحتلال طمسها، وتكفل ببناء مدن سكنية متكاملة وإعادة ترميم وإعمار المستشفيات والعيادات الصحية والمدارس والمساجد ومشاريع البنية التحتية والخدمية الأخرى.
واتخذ زايد مواقف ثابتة وشجاعة تجاه رفض وإدانة ظاهرة الإرهاب بكل أشكاله وصوره ومصادره، وأكد دعمه الكامل للجهود الدولية والإقليمية لمكافحة هذه الظاهرة، ودعا زايد دوماً إلى التسامح والتراحم في العلاقات الإنسانية بين الشعوب، وأكد في أكثر من موقف أن الدين الإسلامي لا يعرف العنف والبطش الذي يمارسه الإرهابيون الذين يدعون الإسلام زوراً، وأن الإسلام هو دين المحبة والغفران والتسامح والرأفة.
وانطلاقاً من هذه الرؤية العميقة وحب عمل الخير لخدمة الإنسانية والبشرية، أسس زايد في عام 1971 صندوق أبوظبي للتنمية ليكون عوناً للأشقاء والأصدقاء في الإسهام في مشاريع التنمية والنماء لشعوبهم.
كما أرسى أسس العمل الإنساني وآليات تنفيذه بمبادرته بتأسيس هيئة الهلال الأحمر قبل نحو ثلاثة عقود، كما يؤكد ذلك سمو الشيخ حمدان بن زايد آل نهيان ممثل الحاكم بالمنطقة الغربية رئيس الهيئة بمناسبة الذكرى 29 لتأسيسها في 31 يناير 2012، ان الهيئة ستظل تضطلع بالمسؤولية الإنسانية الملقاة على عاتقها سيراً على نهج الوالد المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “طيب الله ثراه” الذي أرسى صرح الهلال الأحمر الذي تنطلق منه قوافل الخير والعطاء للشعوب الشقيقة والصديقة.
وأنشأ زايد في عام 1992 مؤسسة زايد للأعمال الخيرية والإنسانية برأسمال يزيد على مليار دولار، لتكون ذراعه الممتدة في ساحات العطاء الإنساني في جميع مجالاته داخل الدولة وخارجها.
وقد تبوأت دولة الإمارات بفضل جهود الشيخ زايد “رحمه الله” ومبادراته الإنسانية في مناصرة الضعفاء ومساعدة المحتاجين ونجدة الملهوفين وإغاثة المنكوبين مكانة الصدارة والريادة في ميادين العمل الخيري والإنساني إقليمياً ودولياً.
– وام