د خالد الخاجة
حصل على بكالوريوس العلوم عام 1958، ثم على منحة لاستكمال دراسته في أميركا، وحصل على شهادة الماجستير في الجيولوجيا من معهد علم المعادن في ولاية ميسوري عام 1961، وهو تخصص ندر في العالم العربي من يلتحق به آنذاك، وعلى شهادة الدكتوراه عام 1964، عاد بعدها إلى بلاده يحدوه أمل كبير في أن يفيدها بعلمه نادر التخصص، ولكنه وجد قرار تعيينه في معهد بإحدى المدن النائية، وأسند إليه تدريس الكيمياء، ولما أخبر مدير المعهد أنه متخصص في علم الجيولوجيا التي حصل فيها على درجة الدكتوراه من أميركا وغير متخصص في الكيمياء، أجابه المدير قائلا: وهل تعجز عن قراءة كتاب ثم تدريسيه للطلبة؟ فسقط في يده وتذكر ذلك الحلم الذي ظل يراوده في إنشاء معهد للجيولوجيا وتكوين جيل من المتخصصين، في منطقة أشد ما تكون حاجة إلى هذا التخصص.
ظن أن في الأمر خطأ ما، فقصد باب الوزير المسؤول عن التعليم العالي، لكنه عجز عن مقابلته رغم استجداء مدير مكتبه لمدة شهر أو يزيد حتى ضاقت به سبل العيش.
ولأنه كان ينتظر مولوده الأول، اضطر للذهاب إلى ذلك المعهد واستلم العمل لتدريس الكيمياء بضغط الحاجة، وفي ذات اليوم قابل صديقاً له حاصل على الدكتوراه في الهندسة النووية من روسيا، وأخبره وهو محطم النفس يملؤه اليأس، أنه اضطر لتدريس الصوت والضوء في نفس المعهد وهو العالم في الهندسة النووية، ونصحه ألا يقع في ما وقع فيه، فما كان منه إلا أن ذهب إلى الموظف الذي وقع لديه إقرار استلام العمل وطلبه منه، متحججا بتصحيح بعض البيانات، ثم قام بتمزيقه قائلا له: أنت لم تقابلني وأنا لم أقابلك..
ثم عاد أدراجه مهاجرا إلى الولايات المتحدة الأميركية ليبدأ مشواره مع العلم، ويلتحق بوكالة الفضاء الأميركية “ناسا” ويصبح من أهم علمائها.
تلك كانت بدايات رحلة عالم الجيولوجيا المصري الدكتور فاروق الباز، والتي قصها بنفسه في أكثر من موضع بالتفاصيل، وهي ليست قصته بمفرده، لكنها قصة العديد من العلماء والنابغين العرب الذين حيل بينهم وبين خدمة أوطانهم، لأسباب عديدة أهمهما عدم الوعي والبيروقراطية، وهو ما يطرح السؤال: من هجّر العقول العربية؟ وفتح ذلك الجرح الذي مازال ينزف، ونحن في أمس الحاجة إليهم في زمن تقاس فيه قيمة الأمم بمقدار ما تحمله عقول أبنائها من علم وفكر.
وأنا على يقين أن الغالبية من هؤلاء لم تكن الهجرة اختياراً لهم ولكن اضطراراً، وظل نداء الوطن يقظاً داخلهم يناديهم ويقض مضاجعهم، إلا أن نفس الأسباب التي دفعتهم للهجرة هي ذات الأسباب التي حالت دون عودة الكثير منهم، وهي التي حالت دون تنفيذ طموحات من عادوا.. فعادوا.
عندما تجد الكفاءات، بمختلف تخصصاتها، أنه لا مكان لها في العديد من البلاد العربية ولا يسمع لها صوت، وعندما تجد أن أهل الثقة هم من يتصدرون المشهد وأهل العلم والخبرة يجلسون في الصفوف الأخيرة إن وجدوا لهم مكانا..
وعندما تتكدس براءات الاختراع ساكنة في مراكز وزارات البحث العلمي والجامعات، ويمنع عنها إكسير الحياة لتتحول إلى واقع يلمسه الناس وييسر حياتهم ليدركوا قيمة العلم، ويشعر الباحثون بقيمة ما قدموه لأوطانهم وأمتهم وليكون ذلك وقوداً لتحقيق المزيد من الإنجازات.. فماذا ننتظر ممن بذل الجهد والطاقة وسنوات العمر وعصارة الفكر ثم يجد كل ذلك يذهب أدراج الرياح، غير الإحباط واليأس والغربة داخل وطنه وانتظار لحظة الخلاص؟!
عندما تجد الكفاءات أن البحث العلمي ليس من أولويات دولها، وأن استيراد التكنولوجيا دون توطينها هو الفكر السائد، وأن نسبة الإنفاق على البحث العلمي في الدول العربية لا تتعدى 0.2 % من إجمالي الموازنات العربية..
وعندما يتحول البحث العلمي من وسيلة لتحقيق غاية كبيرة، وهي رفعة الوطن وإيجاد الحلول لكثير من القضايا والمشكلات التي تعوق انطلاقته التنموية، إلى وسيلة للترقي الوظيفي والحصول على درجة علمية وينتهي به الأمر على أرفف المكتبات يعلوه تراب، شاهد عيان على حال أوطان عجزت عن توظيف قدرات أبنائها..
ويجد الباحث أن ما يسند إليه من مهام بعيد عن تخصصه وما قضى فيه زهرة شبابه، بحجة سد العجز، فكيف نتوقع أن يبدع فيه أو يستكمل طريق البحث وقد قطع عليه بفعل البيروقراطية التي لا ترى أحيانا غير ملء الشواغر؟!
عندما تكون البيئة السياسية غير مستقرة والصراع السياسي على أشده، فمتى ينظر إلى قيمة العلم أو سبل الاستفادة من النابغين فيه؟ وعندما تقاد الأوطان بتكريس الإحباط وينعدم الأمل في بزوغ فجر غد أفضل، فكيف يبتكر العقل؟
عندما يعجز المعلمون عن اكتشاف النابغين من تلاميذهم، فضلا عن إحباطهم والسخرية من طرحهم، فماذا يفعلون؟ وقصة مجدي يعقوب جراح القلب العالمي – الذي منحته جمعية القلب الأميركية لقب أسطورة الطب ما زالت شاخصة عندما قال له أستاذه حين كان طالبا في كلية الطب، إنه لا يصلح إلا أن يكون بائعاً على عربة ترمس، وتشاء الأقدار ألا يستأمن هذا الأستاذ غير مجدي يعقوب على قلبه حين احتاج إلى جراحة قلب مفتوح!
حتى عندما يعود هؤلاء إلى أوطانهم وقد ذاع صيتهم في الدنيا بأسرها، آملين أن يقدموا خبرتهم لأوطانهم، تحول البيروقراطية واللجان المنبثقة عن لجان والتوقيعات والقرارات والتصديقات والنزاعات والقوانين، بينهم وبين ما يريدون، فيعودون أدراجهم.
عندما يحجم القطاع الخاص عن المساهمة في تطوير البحث العلمي والعناية بأفكار الباحثين وتطبيقها، بدلا من إلقاء المسؤولية كاملة على المؤسسات الرسمية في الدولة.. فماذا نتوقع؟
وعندما يظل الباحث العربي يلهث وراء زيادة دخله بحثاً عن حياة كريمة، ويدور تحت رحى وطأة الحياة وقسوتها دون أن يتم توفير بيئة إبداعية مواتية قادرة على إخراج أفضل ما لديه، يدفع المبتعثون في الخارج إلى عدم العودة، وآية ذلك أنك لا تجد من بينهم أبناء الخليج الذين توفر لهم بلادهم حياة كريمة.
إن نزيف العقول العربية لن يتوقف إلا بوجود إرادة مؤمنة بقيمة العلم، وبإزالة كل العوائق التي تحول دون الاستفادة من عقولنا العربية.. عندئذ تصبح الهجرة اختياراً لا اضطراراً.
– البيان