فاطمة بن محمود – تونس

فاطمة بن محمود *

لا أدري كيف أفسّر الصدفة التي تجعلني في كل مرة أكون على سفر وأدخل المدن الجميلة ليلا؟
هذه المرة ايضا دخلت الفجيرة ليلا،ولم تكن المدينة على يقظة تامة و لا تغطّ في نوم عميق،دخلتها وهي في حالة نعاس فبدت لي مثل امرأة جميلة ناعسة وليس أكثر إغراء من ذلك . كانت الفجيرة في نعاس خفيف ومثير و اشتهيتأن أفتح لها كل شبابيك النهار حتى أراها تستيقظ و أرتمي في أحضانها ..

الطريق الى الفجيرة مريحة،وعلى طول المسافة كانتالفوانيس المضيئة تقودنا اليها، اقتربنا من كتلة متوهّجة كأنها ماسّة عملاقة قال لي السائق وهو يشير باصبعه مبتسما ” هذه هي الفجيرة، سيدتي ” و استقمت في جلستي ، كنت أريد أن أدخل كتلة الضوء و أنا في كامل تيقظي ولذّ لي أن أكتشف أحاسيسي لأول مرة و أنا أجرّب الدخول الى ماسّة عملاقة..

ليس هناك أكثر سحرا من دخول المدن الجميلة ليلا..
من نافذة غرفتي في الفندق كنت أزيح الستار فيقفز الصباح داخلها و يمتد بصري الى البناءات الشاهقة و الأنيقة ، كانت المناسبة حضور الملتقى الاعلامي بمدينة الفجيرة، و لأول مرة أعرف انه يمكن في مدينة عربية أن يُنجز ملتقى على مستوى عال من الحرفية والتنظيم و قد راقني هذا التنوّع الثقافي بين الشرق المتعدد و الغرب المختلف لتبادل الأراء و المواقف و التجارب، و كان الاختلاف شديدا بل أحيانا متناقضا، و لكن سماء الفجيرة كانت رحبة تسع كل اختلاف، و لعلّه لذلك أجدني متفاجئة ومندهشة فأنت عندما تأتي الفجيرة لا تأتي لتحافظ على تفكير نمطي يهاب أن يطلّ بمواقفه و لكن لتفكر بصوت مرتفع و لتنتصر لرأيك المختلف و لن تجد من يقصيك، كان هذا بعض أحلامي التي تمنيتها يوما و ها أناأراها و قد تحققت على أرض الفجيرة ..

هنا أرض الأحلام التي تتحقق..

كانت رغبتي شديدة أن أرى الفجيرة خارج الملتقى و كان موظف الاستقبال في الفندق يفهم نظراتي الزائغة فيقترب مني في كل مرة بلطف وهو يقول ” هناك سيارة من أجلك ان كنت تريدين الفسحة ؟ ” و أكثر من مرة خرجت من الفندق في سيارة فارهة جدا و سائق غير ثرثار فأتجول في شوارع فسيحة، نظيفة ذات محلاّت فخمة و أسواق رائعة فكأني أدخل مدينة غربية.. فقط ما يميّز الفجيرة انها ذات سحر عربي أصيل .. هنا أعلى بناء فخم وعصري جدا في المدينة تقابله قلعة قديمة تتوغل في عمق التاريخ و تعبق برائحة الماضي.

جلست مرة في مقهى ،فأنا أعتبرها نبض المدينة و قد راقني ان اكتض المكان بأجيال مختلفة من الجنسين و من حين الى آخر تتعالى ضحكات من حولي تشعرني بالسعادة والأمان .. استلذّ وقتي و أحاول أن أتناسى أني يجب أن أعود الى غرفتي في الفندق لأرتّب حقيبة سفري.. أحاول أن أتناسى أني بعد ساعات سأغادر هذه المدينة التي أحببتها،أهم ما يجعلك تحب الفجيرة هو هدوءها العميق الذي يشعرك بالأمان، هو سحرها الباذخ الذي تطرب له نفسك، هي طيبة أهلها الذين تودّ أن تضمهم جميعا الى صحن قلبك..

!أرتشف قهوتي بهدوء و أتجاهل حقيبتي للسفر و أهمس لنفسي أيتها الساعات تباطـأي ..

أثناء عودتي للنزل مررت بإقامة حاكم الفجيرة مبنى جميل بطابق واحد تتقدمه حديقة غنّاء و فوجئت بغياب كلي لأي بوليس أمام القصر و لا حتى بوليس استعراضي ، لم أصدّق هذا طلبت من السائق أن يتوقف أريد أن أتثبت من هذه التجربة الفريدة في عالمنا العربي. وتأكدت، نعم قصر الحاكم بجمال بسيط و دون حراسة و اندهشت من اكتشافي الجميل و لكن هل يخاف من يخدم مدينته بكل هذا الحب و الحماس و الرّوح الوطنية العالية ..؟

كنت أريد ساعتها أن أصرخ ليسمعني كل أصدقائي في تونس و خارجها انه هنا في الفجيرة يعيش الناس الزمن الجميل، الزمن الذي يطمئن فيه الأمير لشعبه فقط لان كل أفراد الشعب قد تحولوا الى أمراء .. نعم أمراء في نمط تفكيرهم و في تعاملهم مع الحياة وفي عشقهم لمدينتهم.. ينحني قلبي احتراما و تقديرا لحاكم الفجيرة الذي جعل مدينته جميلة و دافئة و آمنة و خالية تماما من كل مظاهر البوليس. و بطبيعتي العربية عنّ لي اني أريد أن أرى بوليسا في !!الفجيرة، بوليس واحد يا ربي..
!!أريد أن أرى كيف يقف صارما محدقا بالناس يتوعدهم بنظراته ان هم نووا أن يخطؤوا..
و لكن لم أر و لا بوليسا واحدا ولا أعرف حتى كيف يكون البوليس عندهم في زيه الرسمي او حتى الاستعراضي..
هل يعقل هذا .؟
أعتقد ان مدينة الفجيرة نموذجية، تصنع الاستثناء و لعلها لا تشذّ عن بقية الامارات الاخرى التي أتمنى أن يبتسم لي حظي يوما فأزورها ..

كانت اقامتي قصيرة في الفجيرة و لكن أشعر ان علاقتي قوية بهذه المدينة و العلاقة مع مدينة هي تماما كالعلاقة مع البشر يصنعها العمق و ليس بالضروة الامتداد الزمني وأجد تجربتي في الفجيرة تؤثّر فيّ بشدة و تغيّر جذريا نظرتي للخليج ..

قلت لصديقي الروائي الأردني يحيى القيسي ” أشعر بصدق اني لم أعرف الخليج قبل اليوم ” فردّ بهدوئه المعتاد و ثقته العالية ” يا فاطمة الامارات العربية المتحدة متفرّدة على الجميع”.
نعم أنا أتأكد من هذا اليوم و الفجيرة تقودني الى هذه الحقيقة : ان الامارات العربية هي العلامة الفارقة في الوطن العربي.
عدت الى تونس و كأني كنت داخل حلم جميل ولا أصدّق نفسي و أحتاج أن أعود الى صوري التي التقطتها في الفجيرة لأتأكد أني لم أكن في حلم من ابتكارالمخيّلة بل في حلم من صنع العقل الاماراتي المبدع.

كم أحببت الفجيرة ، أرض الأحلام التي تتحقق…!

*كاتبة واعلاميةمن تونس
( عن مجلة الفجيرة )