د خالد الخاجة
إن التاريخ يتوقف طويلًا أمام الأحداث الفارقة في حياة الشعوب، والتي ما كان لها أن تكون لولا عبقرية الفكرة.. فالأعمال الجليلة والكبيرة والمؤثرة والفاصلة تبدأ دائماً بفكرة، لكنه الإنسان وما وهبه الله من قدرات قد يستطيع أن يحول الفكرة إلى واقع، وقد يتوقف الأمر عندها وتظل حبيسة العقول لا تستند إلى إرادة التمكين أو التغلب على تحديات الواقع، وقد تلامس الفكرة عزيمة رجال أشداء، تسري فيهم من الوريد إلى الوريد، وتختلط باللحم والعظم، يؤمنون بها حتى النخاع، فيحيلونها إلى واقع يلمسه الناس؛ هؤلاء هم القادة الحقيقيون الذين تخلد ذكراهم في قلوب شعوبهم.
لكن جولات التحدي لا تتوقف عندما ما تتحول الفكرة إلى واقع، فالتحدي الأكبر هو أن تستمر وتقوى وتتوثق عراها ويستلهم منها الغير أفكاره، تضرب المثل والنموذج، ويكثر روادها، وترتقي بأصحابها، وتنافس دائماً على الصدارة، وتكون باب الخير والنماء لأصحابها، وتحولهم من حال إلى أحسن حال.. تلك هي قصة الاتحاد، وتلك هي العبقرية الحقيقية التي تحويها تجربته والقوة الكامنة فيه، والتي تضمن استمراره مهما كانت العقبات التي تعترض طريقه، وللعبقرية في اتحاد دولتنا أوجه كثيرة.
إن من عبقرية الاتحاد أنه لم يكن موجهاً ضد طرف أو كيان أو دولة، بقدر اهتمامه بقيمة الاتحاد في ذاته وما يتحقق لأبنائه، لذا فإن شجرته ارتوت منذ البدء بالمحبة والتجرد وحب الخير للإنسان، بعيداً عن لونه وجنسه وعرقه ومذهبه، ففتحت دولة الاتحاد أبوابها للبشر من شتى بقاع الأرض واحتضنتهم، دون تمييز في الحقوق أو تعسف في الواجبات والالتزامات، فأحبوها بصدق، ومن عاد منهم إلى بلاده بقيت الإمارات في قلوبهم عزيزة كما الوطن.
من عبقرية الاتحاد الواقعية.. فلقد سئمت شعوبنا العربية من النظريات السياسية والشروح الاقتصادية والأرقام الخاصة بمعدلات النمو، إذ إن ذلك لم ينعكس كثيراً على حياتهم اليومية.. وهذا ما تجاوزه الاتحاد مع شعبه الذي آمن به، لأنه شعر بقيمته وعاش آثاره واقعاً كإنسان تحترم أدميته، يجد التعليم والعلاج والسكن والعمل، يحيا سعيداً في وطن السعادة، وهو ما أكدته التقارير الدولية التي لا تعرف غير الأرقام والحقائق التي لا تقبل التأويل، وهو ما لم يتحقق في كثير من التجارب الاتحادية وكان سبباً في أن تفشل، لذا فإن فلسفة حكومة الاتحاد حملت دائماً مهمة استراتيجية شديدة الوضوح عميقة المعنى؛ هي “تيسير الحياة وإسعاد المواطن”.
عبقرية الاتحاد في صدق المؤسسين في أن تكون مظلة الاتحاد هي التي تضمهم، ثم تتأكد العبقرية عند من تربوا في مدرسة المؤسسين، الذين ساروا على الدرب محافظين على الأمانة والانتقال بها من طور التأسيس وتثبيت الأركان، إلى مرحلة الانطلاق إلى العالمية والمنافسة على الصدارة في مجالات مختلفة، وتلك مرحلة مهمة.
إن عبقرية الاتحاد أنه أنشأ دولة لم تكن موجودة بالأساس، على غير ما تم من تجارب اتحادية بين دول قائمة في الأساس، ولكنه في حالتنا صنع كياناً كبيراً له قيمة في محيطه، لخصها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حين قال “نحن لسنا دول الإمارات، بل نحن دولة الإمارات العربية المتحدة”، لأن الحقيقة الكبرى والدامغة والفارقة هي في الاتحاد، الذي أوجد دولة لها مكانة تحت الشمس وفوق الأرض.
عبقرية الاتحاد تأتي من أن البديل له شديد الظلمة والقسوة، ويدل دلالة واضحة على أن مؤسسيه قد استوعبوا دروس التاريخ جيداً وقراءة الواقع.. ولنا أن نتخيل الصورة كيف كانت ستكون في منطقتنا من دونه، ليقفز إلى الذاكرة مباشرة عصر ملوك الطوائف في الأندلس، والتي كانت بداية انهيار دولة بقيت قائمة ما يزيد على ثمانية قرون، ولكن حينما تمزقت سهل على أعدائها التربص بها.. تلك سنة التاريخ، أنك ضعيف بمفردك قوي بمن حولك.
عبقرية الاتحاد تأتي من أنه كان تنفيذاً لإرادة الله التي جعلت من دولة الاتحاد كما اللوحة الفنية المبدعة، التي لا يكتمل تمامها ولا تظهر حقيقة جمالها أو عظمة بنيانها إلا بكافة أجزائها، والكل دون الجزء مبتور، والجزء دون الكل مقهور، وتلك حكمة الاتحاد، الذي رفع شعاراً يلخص تلك الفلسفة في أن “البيت موحد”.
عبقرية الاتحاد تراها حين يدعو خطيب الجمعة بأن يحفظ الله – سبحانه في علاه الإمارات، ويترحم على المؤسسين، ويدعو للقادة بالسداد، وللدولة بالأمن والاستقرار.. أتأمل وجوه المصلين من عربهم وعجمهم وقريبهم وبعيدهم، فأجدهم يؤمّنون على الدعاء بمحبة وصدق، تظهر آثاره على الوجوه تصحبها رجفة الأيدي في استمطار الرحمات وحفظ البلاد.. تلك لحظات تستوجب التوقف والتأمل، كيف استطاع أن يغشى الاتحاد بمظلته أبناءه وغير أبنائه، حتى يحتفل بيومه كل من استظل بشجرته فاحتضنتهم بظلها الوارف، دون أن تسألهم عن جنسهم أو دينهم أو عرقهم أو مذهبهم، فالكل على أرض الاتحاد سواء.
إن عبقرية الاتحاد هي التي تحسم المنافسة دائماً لصالح بلادنا، ولا شك أن الفوز بتنظيم إكسبو 2020 آية من آياته التي تكشف بجلاء صورة الإمارات في عيون الآخرين، وهو ليس استفتاء دولياً على استضافة حدث، بل هو استفتاء على الإمارات ومكانتها، هي محصلة سنوات من الخير نثرته الإمارات في علاقتها مع محيطها الإقليمي والدولي، هو تصويت على رسالة السلام التي حملتها منذ بدء الاتحاد، وعلى حالة السلام التي تملأ ربوع الوطن، هو استفتاء على قوة بنيان اتحاد دولتنا، وآفاق النماء والاستثمار، والمستقبل الذي ينتظرها.
فالعالم لا تحركه العواطف الوطنية الجياشة، ولا يعرف غير الحقائق، ولا تكون اختياراته إلا عبر معرفة ودراية ودراسة متأنية، لذا كان الفوز بتنظيم إكسبو 2020 في مغزاه الحقيقي، أكبر من كونه حدثاً اقتصادياً عالمياً كبيراً تتنافس على استضافته الدول الكبرى، بل هو حصيلة مؤشرات المؤسسات الدولية ومراكز البحوث التنموية العالمية المعنية بالإنسان وحياته، والتي كانت دولتنا أمامها دائماً في مكان الصدارة، حتى بات المركز الأول والبحث الدائم عن التميز وجهاً آخر من عبقرية الاتحاد
– البيان