ألقت الأزمة السورية بظلالها على المملكة الأردنية الهاشمية حيث ، ازداد عدد سكان المملكة في ثلاثة أعوام، إلى ما يقارب المليون نسمة، وفجأة، أصبح لدى الأردنيين محافظة جديدة بعدد سكان، يبلغ 150 ألفاً.
المحافظة الجديدة هي مخيم الزعتري، بما فيه من تحديات وصعوبات أمنية ومعيشية، واقتصادية، والمليون هم الهاربون من الموت والترويع، بفعل تداعيات الحرب في سوريا.
وإضافة إلى التأثيرات الاقتصادية والمالية على المملكة التي تسبّب بها هذا الثقل الديموغرافي، أظهرت تقديرات أولية، كشفت عنها تقرير لشركة طلال أبو غزالة للاستشارات تأثيراً، بل ضغطاً، كبيراً على مختلف القطاعات في الأردن، وتتجلى هذه التأثيرات في الصعوبات المعيشية، واضطراب سوق العمل، وارتفاع في أسعار الإسكان، وصعوبة الحصول على الخدمات الصحية والتعليم، ونقص حاد في المياه، إضافة إلى الضغط المفرط على الخدمات، التي تقدمها البلديات، والأمن وإنفاذ القانون.
مثل هذا الكلام كيف يمكن أن يفهمه مراد حسن، الشاب الأردني البالغ من العمر 25 عاماً والعاطل من العمل ولا يملك حتى حرفة حقيقية يعيش منها.
يقول مراد لـ «البيان» إنّه كان يعمل في أحد المطاعم الكبيرة أمين صندوق، لكن رب عمله استغنى عنه لأن هناك طالب عمل سورياً مستعداً، ليحصل على راتب أقل وساعات عمل أكثر.
ومع ذلك، يملك مراد من الصداقات مع مواطنين سوريين الكثير، وهي الصداقات، التي أدخلته في قلب الأزمة السورية وتفاصيلها.
يدرك مراد أنه يقع في إشكال شعوري على حد وصفه، فهو يتعاطف مع ما يجري للشعب السوري لكنه أيضاً يعاني، وهنا يبتسم مراد وهو يقول لـ «البيان»: «أنا أحد ضحايا الأزمة في سوريا».
حال مراد حال الموقف الرسمي، فالحكومة الأردنية، على حد قول د. ممدوح العبادي، السياسي الأردني وأمين العاصمة عمّان الأسبق: «لا يمكن أن تغض الطرف عن مساعدة السوريين، لكنها أيضا تتوجع».
ويقول العبادي لـ «البيان»: «الجميع يطلبون منا ما نعجز عن تلبيته لمواطنينا».
تمنّع.. وتوسع
رغم تمنع الحكومة الأردنية في البداية عن إنشاء مخيم للاجئين على أراضيها، لما يفرضه ذلك عليها من التزامات فإن مخيم الزعتري أنشئ في النهاية، وكان يراد منه أن يستوعب عدداً محدوداً من اللاجئين، أما اليوم فهو يستوعب ما يزيد على عدد سكان الجنوب الأردني بمحافظاته الأربع.
كان على الأردن بعد تحول المعارضة السورية إلى مسلحة، وبدء لجوء الهاربين من الحرب من سوريا إليه، أن يفعل كما فعل في الأزمة العراقية في العام 2003، إقامة مخيم داخل الأراضي السورية، بالتعاون مع المجتمع الدولي، وهو ما يعني عدم اضطلاعه بمسؤوليات اقتصادية وأمنية واجتماعية جمة، كما هي عليه الأمور اليوم.
ونبّه المفوض السامي لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس الأردنيين مؤخراً بأن قرار تخفيف الضغط على المملكة بتأسيس «مناطق آمنة» للسوريين داخل سوريا على الحدود الأردنية – السورية أمر، يعود إلى مجلس الأمن.
انقسام أردني
وفتحت على الأردن منذ اندلاع الأزمة في سوريا الكثير من المخاوف لا تبدأ بالمياه، ولا تنتهي بقضايا الأمن والاقتصاد.
وينقسم الأردنيون رسميين ومواطنين في شأن استقبال اللاجئين بهذه الأعداد الكبيرة، لكن الواقع السوري في الأردن في كل الأحوال بات حاضراً حتى قفز الناس في المملكة في حواراتهم عن: هل نستقبل كل هذه الأعداد من السوريين أم لا؟ إلى السؤال: متى تنتهي هذه الأزمة؟
أخيراً، نبّه رئيس الوزراء الأردني د. عبد الله النسور ممثل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في الأردن اندرو هاربر، للأعباء التي تتحملها المملكة نتيجة استضافة نحو 600 ألف لاجئ سوري عقب الأحداث في سوريا فقط، إضافة إلى المواطنين السوريين الذين كانوا في الأردن قبل الثورة السورية، وبقوا فيها.
وأشار النسور إلى أن كلفة احتياجات اللاجئين السوريين الإنسانية والتنموية، بلغت نحو 1.9 مليار دولار، رغم قلة موارده وتواضع إمكاناته الاقتصادية، فضلاً عن الكلف الاجتماعية والأمنية.
وفي آخر إحصائية، برز رقم 54 مليار دولار ككلفة متوقعة لإعاشة اللاجئين السوريين في دول التشرّد، وهو ما يفرض على الأردن عبئاً ضاغطاً على البنى الاجتماعية، والأوضاع المالية، والبنى التحتية.
ويُعزى هذا التعارض في التقديرات إلى حقيقة أن الأرقام التي تقدمها الأمم المتحدة، تقوم على حساب المهجّرين المسجلين (وأولئك الذين على وشك التسجيل) حيث وصلت تقديرات لأعدادهم إلى 8.7 ملايين جرى تهجيرهم سواء داخل سوريا أو الدول المحيطة.
ما يدعو للقلق أردنياً هو أن الترجيحات تؤكد استمرار تدفق مزيد من السوريين إلى المملكة، إضافة إلى نسب الولادات الطبيعية بين السكان المهجرين.
ملفات ضاغطة
الملف الأمني ليس الملف الضاغط الوحيد على المملكة، فهناك ملفات على رأسها الملف الاقتصادي والمائي.
ودأبت وزارة المياه والري على الشكوى من أن الأزمة السورية، وتدفق مئات الآلاف من السوريين إلى المملكة أدى لتفاقم الأزمة المائية في بلد يعاني أصلاً من شح موارده وندرتها، وتسبب في تناقص الكميات المخصصة للفرد الواحد إلى حوالي 100 لتر يومياً.
وقرع وزير المياه الأردني د. حازم الناصر، أمام المؤتمر العالمي لتحديات قطاع المياه في الأردن الذي عقد في البحر الميت، جرس إنذار من أنّ هذا الكم من اللاجئين زاد الأعباء المالية على الخزينة، لافتاً إلى أنّ كلفة تزويد المياه للاجئين فاقت الـ 360 مليون دينار، كما أثّرت في خدمات الصرف الصحي في المجتمعات المحلية الوطنية واللاجئة، وشكل ضغوطاً قاسية على نظام توريد المياه للمواطنين بشكل ملموس، بينما شرح وزير التخطيط والتعاون الدولي د. إبراهيم سيف التحديات التي فرضتها الأزمة السورية على موارد المياه في شمال المملكة، فقال: من المحتمل أن تشكل تداعيات ذلك آثاراً كارثية على المدى البعيد.
وأشار الوزير الأردني إلى أن التكاليف المباشرة قصيرة المدى للاجئ السوري هي 310 دولارات، والكلف البعيدة المدى هي حدود 290 دولاراً، وبرقم إجمالي وصل إلى 600 دولار.
الخيمة المحروقة تروي قصة 6 أرواح
هربت اللاجئة السورية حميرة بعائلتها المكونة من خمسة أطفال إلى الأردن خوفا على حياتهم. قبل شهر دخلت الأربعينية إلى المملكة بحثاً عن ملاذ آمن لأطفالها بعد أن تردت الحالة الأمنية في مسقط رأسها في ريف تدمر، فقدت خلالها زوجها ووالديها وشقيقتها وثلاثة أشقاء ذكور.
لم تكن حميرة تظن أن موتاً قطعت، هرباً منه، مئات الكيلومترات سيقف أمام عينيها مرة أخرى لكنه هذه المرة سيخطف منها ثلاثة من أطفالها دفعة واحدة.
«البيان» زارت حميرة في حيّها في منطقة الظليل الصحراوية (التابعة لمحافظة الزرقاء) ووقفت على ما تبقى من حكاية ستة أرواح بشرية وخيمة محروقة.
الأسبوع الماضي وأثناء نومها وأطفالها في خيمة جعلتها منزلاً في منطقة سهت حميرة عن شمعة كانت تضيء لها خيمتها. الساعة قاربت على منتصف الليل. ومنتصف الليل في الصحراء كثير. بردٌ وظلمةٌ وعواء وربما أشباح. لم تخبر السيدة الغائبة عن الوعي هي وطفلين من أطفالها عما حدث، بل هي لاتزال في عالم غيبوبتها، لكن مخبري الدفاع المدني انتهوا في تقريرهم أن سبب الحريق الذي أودى بحياة ثلاثة من أطفال حميرة كان شمعة نسيتها مضاءة لتؤنس لها ظلمة صحرائها. العائلة مكونة من ستة أفراد: أم وخمسة أطفال. ثلاثة قضوا تفحماً، واثنان في حالة حرجة.
أما السيدة حميرة فلا أحد يدري ما تفعل اليوم وراء جسد ذوّبته النيران، مسجى على سرير العناية الحثيثة في قسم الحروق في مستشفى الزرقاء الحكومي. هرع الجيران إلى حيث النيران، لكن بعد أن التهمت النار أحلام حميرة.
هرع الجيران واسعفوا أطفالاً خمسة علموا أن ثلاث منهم لا رجاء منهم واثنان قد يسعفهم قدر الجبار. في التفاصيل، قتل في الحريق شقيق تلو شقيق لحميرة، هكذا بلا طائل، بينما صراخ نسوة المنطقة يعلو على عواء ذئاب المنطقة. «البيان» زارت بيت العزاء. وهناك التقت شقيق حميرة. يقول حمد لـ«البيان»: إن حالة البنت الكبرى الصعبة، فنقلتها السلطات الطبية الأردنية إلى مستشفى البشير في عمّان، بينما بقيت أختها الصغرى في قسم العناية الحثيثة في مستشفى الزرقاء.
في الحقيقة، حمد لا يقول شيئاً متزناً ومكتملاً. حمد طوال الوقت يبكي على أخته وأطفالها، وإن هو قال يغشى عليه مرة ويبكي مرة ويهذي طوال الوقت. يشير إلى أن الوالدة (أخته) وأطفالها الذين قدموا إلى الأردن قبل شهر تقريباً، بعد أن تردت الأوضاع الأمنية في ريف حماة مكان إقامتهم البديل عن ريف تدمر.
ووفق شقيقها، فإن الأجهزة الأمنية، وبعد هذه الحادثة طلبت من اللاجئين السوريين الذين كانوا قد تجمعوا في المنطقة ليستأنسوا ببعضهم في غربتهم، تغيير مكان سكنهم، لدواعي السلامة.وهكذا، وطن يضيع وعائلة تفنى.
نشرات الأخبار والموت المجاني.. همٌّ ومصائب تلاحق الهاربين من سوريا
قالت لأبيها: «لِم أخذت معك سمر وتركتني يا أبي؟».. فقال لها: «لم تعودي صغيرة يا صغيرتي، أنت أم لأربعة أطفال حالياً».
سوسن ابنة أبيها البالغة من العمر 30 عاما تسكن حمص. هي ولدت في حمص، وعاشت في حمص، وتزوجت في حمص، لكنها لم تمت في حمص.
عندما سمع أبومهند أن القصف بالبراميل والصواريخ والقذائف والمتفجرات بات «يوزّع» الموت وصل حمص خاف على ابنته.
حينها كان الموت السوري المجاني لايزال في بداياته.
نشرات الأخبار بدأت تقترب من الحي الذي ولد فيه العجوز أبومهند الذي تجاوز الـ 60 من عمره.
يقول أبومهند لـ «البيان»: «ولدت هناك، وكنت على يقين أني سأدفن هناك».
حين تقترب نشرات الأخبار من منطقة سورية، سيعني ذلك للسوري اليوم، ومنهم أبومهند، أن الموت بدأ يطرق أبواب أحبابه.
كان أبومهند يجلس كما اعتاد ساعات طوال في ما يشبه المنزل الذي استأجره في حي من أحياء مدينة الزرقاء (شمال شرقي الأردن). المدينة التي لا تبعد عن منتصف دمشق سوى ثلاث ساعات بسيارة ذات سرعة متوسطة.
علبة التبغ الرخيصة أمام حصيرة يجلس عليها، وينام عليها، ويأكل عليها، فيما تحاصره نشرات الأخبار، وتحاصر قلبه الضعيف. فجأة، يسمع المذيعة تقرأ أنّ حياً حمصياً (هو حيه) أمطرته طائرات الكوابيس بوابل من البراميل المتفجرة.. فطار عقله.
في الحي غالية، ابنته الوسطى، المتزوجة من ابن عمها الممرض الذي رفض مغادرة سوريا التي تحتاجه كما كان يقول. على الفور اتصل بصغيرته سوسن. لم تجب. اتصل مرة أخرى.. أيضا لم تجب. قالت له بعد ذلك إنها لم تسمع جرس الهاتف من شدة الانفجارات حولها. وقالت له أيضا إنها كانت تجلس وأطفالها في منتصف البيت، لعل منتصف البيت يحميها. ثم عاتبته: «لِم أخذت معك سمر وتركتني يا أبي؟». فرد عليها: «انتظريني صغيرتي غدا أو بعد غد ونكون بإذنه تعالى معاً».
ترتيبات تحضيره للسفر قليلة. 30 ديناراً (نحو 50 دولاراً) سعر أجرة السيارة. وكانت هناك 40 دينارا أخرى تركها لعشرة أفراد من أسرته.. جزء منهم أحفاده الذين جلبهم إلى المملكة منذ بداية الموت السوري.
فجرا عاد أبومهند إلى سوريا. أما كيف وصل إلى حمص؟ وكيف التقى بابنته، وكيف حملها إلى دمشق ثم إلى درعا.. هي وأطفالها الأربعة. لا يهم.. كل ذلك تفاصيل غير مهمة، ما يهم هو لماذا دخل أبومهند الأراضي الأردنية حاملاً أربعة أطفال دون أمهم؟
بعد مشوار اقترب فيه من الحدود الأردنية، وفي مكان ما قنص رصاص الموت ابنته.
كانت «البيان» طوال الرحلة تراقب أبومهند عبر هاتف يصلح مرة ويقطع مرات.
لا يوجد تفاصيل كثيرة بعد ذلك. بكى الأطفال، وأكبرهم في العاشرة من عمره، أمهم التي لفظت آخر نبض أمامهم. بكوا، جنوا، مزقوا انفسهم. لكن في النهاية كان على أبومهند دفن ابنته في مكان ما وأكمل طريقه.كان صامدا، ومحتسباً. وفقط عندما التقت عينيه بعيني زوجته العجوز أم مهند. هناك حيث سألته أين سوسن؟، انهار.
البيان